كتب : د. سيما حقيقي
تعيش العقول في أزمنة مختلفة. بعضها يمضي مع اللحظة، وبعضها يقيم في الاحتمال.
هناك عقول لا تكتفي بما يُقال، ولا تطمئن إلى الظاهر، عقول تعلّمت — باكرًا أو قسرًا —أن التفاصيل الصغيرة قد تحمل أخطر المعاني.
هي لا تفعل ذلك بدافع الفضول، ولا بدافع السيطرة،
بل لأنها خبرت يومًا كيف يمكن لنبرة عابرة، أو نظرة غير محسوبة، أو صمتٍ في غير وقته أن يغيّر كل شيء.
هذا النوع من العقول لا ينام تمامًا. يبقى متيقظًا، ليس لأنه يشك، بل لأنه يخاف أن يخطئ الفهم، أن يجرح، أو أن يُجرَح.
وهنا، لا يعود الانتباه قوّة خالصة، ولا يصبح التركيز ميزة فقط، بل يتحوّل إلى حالة وجودية كاملة تُدار بعقل يعمل دائمًا بنظام الطوارئ.
ومن هذا المفصل تحديدًا، يمكن فهم طبيعة الأشخاص الذين يبدون شديدي الانتباه للتفاصيل، دون أن يكون ذلك اختيارًا واعيًا دائمًا منهم.
فلا تتعامل مع شخص شديد الانتباه للتفاصيل وتتوقع منه أن يبتعد دون سبب، أو أن يجرحك فجأة، أو أن يسيء فهمك مصادفة.
فهذا النوع من البشر لا يعيش العلاقات على السطح، ولا يمرّ على الكلمات مرورًا عابرًا، بل يلتقط ما لا يُقال، ويقرأ ما بين النظرات، ويصغي لنبرة الصوت كما لو كانت جملة مكتوبة بوضوح.
هو لا يراقبك ليحاسبك، ولا يدقق ليصطاد أخطاءك، بل لأن عقله اعتاد أن يعمل بنظام الطوارئ.
ففي علم النفس، يُسمّى هذا النمط اليقظة المفرطة – Hypervigilance. حالة لا يولد بها الإنسان،
بل يكتسبها حين يمرّ بتجارب جعلته يتعلّم أن الخطر
قد يأتي في أبسط التفاصيل.
ولهذا، لا تكذب عليه. ليس لأنه سيكشف الكذب فورًا، بل لأن عقله مدرَّب على ملاحظة التناقض بين ما يُقال وما يُشعَر.
هذا الشخص يفهم تغيّر نظرتك، واختلاف ابتسامتك، وتأخر ردّك، وانزلاق كلمة صغيرة عن معناها الحقيقي.
وليس هذا لأنه قوي دائمًا، بل لأنه متعب منذ زمن طويل.
المفارقة المؤلمة أن هذا التركيز العالي لا يُستخدم لإيذاء الآخر، بل لحمايته.
هو يدقق كي لا يجرحك، كي لا يفهمك خطأ، كي لا يخسرك بسبب سوء تأويل.
لكن في المقابل، هو يستنزف نفسه بصمت. يفكّر أكثر مما يجب، ويحلل أكثر مما يحتمل، ويحمّل ذاته عبء الفهم الكامل نيابة عن الطرفين.
هذا العقل لا يبحث عن اهتمام زائد، ولا يطلب إثباتات يومية، ولا يحتاج استعراض مشاعر.
ما يحتاجه أبسط… وأصعب في الوقت نفسه:
الوضوح.
كلمة تُقال كما هي، مشاعر لا تُخفى خلف الغموض، وحدود ثابتة لا تتغيّر بحسب المزاج.
فالطمأنينة، بالنسبة لهذا النوع من العقول، ليست رفاهية عاطفية، بل ضرورة نفسية.
وحين تحب شخصًا بهذه البنية الداخلية، لا تختبره، ولا تلعب على المسافات، ولا تتركه يفسّر الصمت وحده.
قل ما تشعر به، حتى لو كان بسيطًا، حتى لو كان ناقصًا، حتى لو كان مؤقتًا.
لأن هذا العقل لا يخاف الحقيقة، بل يخاف الفراغ.
والفراغ، هو أكثر ما يؤلمه.
في النهاية،
التعامل مع شخص عالي التركيز ليس مرهقًا كما يُظن، بل يتطلب شجاعة مختلفة: “شجاعة الصدق”.
وحين تمنحه الطمأنينة، ليس لأنه يطلبها، بل لأنه يحتاجها، ستكتشف أن هذا العقل— حين يهدأ— يحب بعمق، ويفهم بصدق، ويعطي دون حساب.
لكن تذكّر دائمًا:
العقل الذي يعمل في حالة طوارئ دائمة
لا يحتاج إثارة…بل أمانًا



