كتب : د. سيما حقيقي
يتكرّر السؤال منذ زمن طويل، لا بوصفه فضولًا بريئًا، بل كأنه مفتاح مفقود نحاول به فتح أبواب لا نُحسن الوقوف أمامها.
ماذا تريد المرأة؟
يُطرح السؤال كثيرًا، ويُعاد بصيغ مختلفة، وكأن الإجابة مؤجّلة دائمًا، أو كأن المرأة نفسها تغيّر رأيها كلما اقتربنا من الفهم.
ومع ذلك، نادرًا ما نتوقف عند الشيء الأكثر بساطة والأشدّ حسمًا: الرغبة ليست سؤالًا نطرحه… بل مناخًا نخلقه. وحين يكون المناخ معتمًا، لا تُرى الرغبة كما هي، بل تُرى مشوَّهة… مثل وجهٍ في مرآة مائلة.
هنا تبدأ المشكلة.
كثيرون يسألون المرأة: ماذا تريد؟ وكأنهم يسألونها عن شيء محدّد: بيتٍ؟ وعدٍ؟ كلمة؟ ارتباط؟
لكن المرأة — حين تكون واعية — لا تتعامل مع الرغبة كقائمة مشتريات، بل كحالة وجود. هي لا تبحث عن “أكثر”، ولا تطلب “أفضل”، ولا تنتظر رجلًا مثاليًا. هي تبحث عن شيء أدقّ وأصعب: أن تشعر أنها في مكان لا يُصغّرها، ولا يختبرها، ولا يطلب منها أن تُجمّل حقيقتها كي تُقبَل.
ولأن هذا الشيء لا يُقاس بالأشياء، يبدأ الالتباس.
ما الزاوية المعتمة التي تُربك الفهم؟
الزاوية المعتمة ليست في “عقل الرجل”، ولا في “غموض المرأة”. الزاوية المعتمة هي أن بعض الرجال — دون أن ينتبهوا — يقرؤون المرأة من خلال ثلاث عدسات خاطئة:
عدسة الإجابة السريعة:
يريد إجابة واحدة تُغلق السؤال. بينما المرأة أحيانًا لا تهرب من الإجابة، بل تهرب من الاختزال. لأنها تعرف أن الإجابة الواحدة قد تُستخدم لاحقًا كحُكمٍ عليها، لا كبابٍ لفهمها.
عدسة الامتلاك:
يتعامل مع رغبتها كعلامة: هل تريدني أن افهم شيئا محدداً ؟ هل اختارتني؟ فتشعر أن رغبتها تحوّلت إلى امتحان ولاء، لا مساحة أمان. وحين تتحوّل الرغبة إلى “اختبار”، تنكمش تلقائيًا… حتى لو كانت موجودة.
عدسة الإصلاح:
يظن أن المرأة “مشكلة” تحتاج حلًا. وفي اللحظة التي تشعر فيها أنها مشروع إصلاح وليست امرأة تُحَب، تبدأ بالانسحاب من الداخل، ولو بقيت خارجيًا.
وهنا يصبح السؤال أكثر إرباكًا من نفسه، لأن الرجل يفتّش عن “الإجابة” في مكانٍ لا تسكنه الإجابة.
إذًا… ما الزاوية المضيئة؟ وكيف نرى منها؟
الزاوية المضيئة لا تبدأ بسؤال: ماذا تريدين؟ بل تبدأ بسؤال أعمق لا يُقال عادةً بصوتٍ عالٍ: متى تصبح المرأة نفسها واضحة أمامك؟
لأن المرأة لا تُفهم في لحظات الدفاع، ولا في لحظات التبرير، ولا حين تشعر أنها مُراقبة أو مُقارنة. المرأة تُفهم حين تتوقف عن “الشرح”.
وهنا المفتاح الذي يضيء الطريق دون خطابة: إذا أردت أن تفهم ما تريد المرأة، لا تلاحق كلماتها… راقب متى يهدأ داخلها. ففي هدوئها تظهر حقيقتها.
حين تشعر المرأة بالأمان، تتغيّر اللغة. لا تعود حادّة، ولا ملتفّة، ولا مترددة. تتكلم ببساطة. وتطلب ببساطة. وتحب ببساطة.
الأمان هنا لا يعني “اللطف” فقط. الأمان يعني ألا تُعاقب على صراحتها، وألا تُسخَّف رغبتها، وألا تُستخدم نقاط ضعفها كأوراق ضغط، وألا تُحمَّل مشاعرها معنى “التهديد”.
عندها، ستكتشف شيئًا سيُربكك بوضوحه: المرأة لا تريد أن تُفهم بذكاء… بل أن تُؤخذ بجدّية. وهذا فرق عميق.
وما الذي ستجده حين تنظر من الزاوية الصحيحة؟
ستجد أن كثيرًا مما ظننته “تناقضًا” هو في الحقيقة محاولة لحماية الذات.
ستجد أن “تغيّر مزاجها” ليس لعبة، بل أحيانًا إنذارًا داخليًا حين تشعر أن حضورها صار ثانويًا.
ستجد أن صمتها ليس غموضًا، بل نقطة توازن: حين تكتشف أن الكلام لا يغيّر زاوية النظر، فتوفّر طاقتها.
وستجد أن ما تريده غالبًا ليس كبيرًا كما تتخيّل… لكنه دقيق: أن تكون علاقتكما مساحة تُظهر فيها حقيقتها، لا مسرحًا تُحسِن فيه التمثيل.
المرأة التي تُحَب حقًا لا تصبح “أسهل”… بل تصبح أصدق. وحين تصبح أصدق، تفهمها دون أن تحتاج أن تفكّكها.
وغالبًا، دون أن ينتبه، لا يحاول الرجل فهم المرأة… بل يختبرها. يختبر صبرها حين يتأخر، ومرونتها حين يغيّر رأيه، واحتواءها حين ينسحب، وقدرتها على التفهّم حين يلتزم الصمت.
لا يفعل ذلك بقصد القسوة، بل بدافعٍ قديم تعلّمه دون وعي: أن المرأة “الحقيقية” هي التي تتحمّل.
لكن ما لا يُقال هنا، أن هذا النوع من الاختبار لا يكشف عمق المرأة، بل يستهلكه. فكل مرة تُجبر فيها على التكيّف بدل أن تُفهم، تخسر شيئًا من صدقها، لا من قوّتها.
وحين تتوقف المرأة عن الاعتراض، لا يعني أنها رضيت، بل أنها أدركت أن زاوية النظر لن تتغيّر، فاختارت أن تحمي ما تبقّى من ذاتها… بالصمت.
لماذا يبقى السؤال أزليًا إذًا؟
لأن البعض يصرّ على أن الفهم يأتي من “السؤال” وحده، مع أن الفهم يأتي من شيء أسبق: من نوع النظرة التي تسبق السؤال.
فالسؤال الأهم ليس: ماذا تريد المرأة؟
بل: هل أنظر إليها كإنسان كامل؟ أم كإجابة ناقصة؟ كشريكة؟ أم كاختبار؟ كمساحة حياة؟ أم كمنطقة سيطرة؟
وهنا تكتمل الدائرة بهدوء.
قد لا تكون المرأة لغزًا… لكن بعض الزوايا تجعل الأشياء البسيطة تبدو معقّدة. وحين نُضيء الزاوية، لا تتغيّر المرأة… بل تتغيّر القراءة، فتظهر الرغبة كما هي: واضحة… حين تُرى في الضوء.
وهنا، يتغيّر السؤال بهدوء. ليس لأن المرأة قررت أن تكون أوضح، بل لأن الضوء أصبح في مكانه الصحيح.
فالمرأة لم تكن يومًا لغزًا ينتظر الحل، ولا سؤالًا أزليًا يبحث عن إجابة نهائية. كانت — ببساطة — تجربة إنسانية لا تُفهم من الخارج، ولا تُختصر في كلمات، ولا تنكشف لمن يقف دائمًا في الظل.
الفهم الحقيقي لا يبدأ حين نسأل أكثر، بل حين نتوقف عن النظر من نفس الموضع. حين نقترب دون رغبة في الامتلاك، ونُصغي دون نية الإصلاح، ونحضر دون أن نحمل ميزانًا خفيًا نقيس به المشاعر.
عندها فقط، لا تعود الرغبة معقّدة، ولا يبدو السؤال محيّرًا، ولا تحتاج المرأة أن تشرح نفسها.
فبعض الأسئلة لا تُحلّ بالإجابات، بل بتغيير زاوية الرؤية.
وربما، حين نفعل ذلك، نكتشف أن ما بدا يومًا سؤالًا أزليًا… لم يكن إلا قراءة طويلة من زاوية معتمة، انتظرت الضوء.


