كتب : د . سيما حقيقي
قد يبدو الفنّ في ظاهره تعبيرًا عن الحسّ، لكنّ في جوهره هو ذكاءٌ يتجلّى في هيئة إحساس.
ولعلّ العلاقة بين الفنّ والذكاء لا تُقاس بمستوى التحصيل أو سرعة التحليل، بل بقدرة الروح على إدراك ما لا يمكن البوح به، واكتشاف الجمال في التفاصيل التي يعبرها الآخرون دون أن يروها.
فالفنان، في لحظة خلقه، لا يستخدم عقله وحده، بل يحرّك شبكةً معقّدة من الذكاءات المتشابكة:
المنطقي، واللغوي، والعاطفي، والبصري، والحركي، والموسيقي.
وقد أشار هاوارد غاردنر (Howard Gardner) في نظريته عن الذكاءات المتعددة أن الإبداع الفني لا يقتصر على الذكاء العقلي (IQ)،
بل ينبع من تناغم أنواع مختلفة من الذكاء تعمل معًا في لحظة واحدة،
فتتحوّل الفكرة إلى لون، والعاطفة إلى لحن، والذاكرة إلى صورة.
ولعلّنا حين نتأمل لوحةً أو نقرأ قصيدة أو نستمع إلى موسيقى، نستطيع أن نلمس أثر هذا الذكاء المتعدد دون أن نراه.
ففي كلّ عمل فنيّ حقيقيّ، يترجم الفنان تركيبته الذهنية والعاطفية إلى مشهدٍ بصري أو صوتيّ، كأنه يقدّم بصمته الإدراكية للعالم.
وهذا ما يفسّر، كما جاء في دراسةٍ نُشرت في Journal of Aesthetic Education (2020)، أن الأعمال الفنية التي تستثير مناطق التفكير التحليلي والعاطفي في الدماغ معًا حيث تُسجّل أعلى معدلات “الاستجابة الجمالية العميقة” لدى المشاهدين، أي تلك التي تتحد فيها الفكرة بالعاطفة في تناغمٍ نادر.
ليس الذكاء هنا نقيضًا للحسّ، بل امتداده الطبيعي. فالعقل الرفيع لا يحدّ من الإحساس، بل يُهذّبه ويمنحه لغةً جديدة.
والفنّ العظيم لا يولد من الانفعال وحده، بل من تلك المنطقة الغامضة بين الشعور والفكر، حيث يلتقي المنطق بالحدس في رقصةٍ صامتة،
فيُصبح اللون فكرة، والفكرة إحساسًا، والحسّ وعيًا جديدًا.
وقد أثبتت دراسات علم الأعصاب الحديثة، مثل أبحاث جامعة كولومبيا (Columbia University, 2019) — أن الدماغ الفنيّ يعمل بطريقةٍ تختلف عن الدماغ الاعتيادي؛ فهو يُنشّط في لحظة الإبداع مناطق متباعدة من الفصين الأيمن والأيسر في آنٍ واحد، أي أنه يفكّر بعاطفته ويشعر بعقله، فيخلق توازنه الخاص بين التحليل والخيال، بين النظام والفوضى الجميلة التي تولد منها الفكرة.
من هنا يمكن القول إن الفنّ هو شكلٌ من أشكال الذكاء المتقدّم، ليس لأنّه يُقاس بالأرقام أو الاختبارات، بل لأنّه يكشف عن قدرة الإنسان على رؤية العلاقات الخفية بين الأشياء، على تحويل التجربة إلى رمز، والحسّ إلى معنى، والفوضى إلى ترتيبٍ يُشبه الحلم.
ولهذا، فإنّ اللوحة أو القصيدة أو المقطوعة الموسيقية هي في جوهرها صورة الذكاء الداخلي للفنان — كيف يرى، وكيف يفكّر، وكيف يشعر.
فمن يملك ذكاءً بصريًا يعبّر باللون والظلّ، ومن يملك ذكاءً لغويًا يخلق من الكلمة كونًا جديدًا، ومن يملك ذكاءً وجدانيًا يكتب بالنبض لا بالقلم.
كلّ عملٍ فنيّ هو إذًا مرآةٌ لما في الداخل، وصدى لمدى توازن العقل مع الروح، فكلّما كان هذا التوازن أعمق، كان العمل أصدق… وأبقى.
«الفنّ لا يكشف ما يراه الذكاء فحسب، بل ما يشعر به حين يفكّر.»
وفي النهاية،
حين ننظر إلى لوحةٍ أو نقرأ نصًا أو نستمع إلى لحنٍ صادق، فنحن لا نتأمل اللون أو الصوت أو الكلمة، بل نلتقي — دون أن ندري — بعقلٍ آخر يُفكّر بجمال، وبروحٍ سامية تمارس أرقى أنواع الذكاء: الإحساس الواعي.
وربما في جوهر كلّ عملٍ فنيّ، تتكثّف طاقة الوعي الجمعي للإنسان، ذلك الذكاء الكوني الذي يمرّ عبرنا جميعًا في لحظة الخلق، حين نصبح نحن والفكرة، واللون واللحن شيئًا واحدًا.
فالفنّ، في عمقه الأصيل، ليس مهارةً أو موهبةً فقط، بل بوّابة إلى وعيٍ أعلى، يتجلّى فيها الإنسان كمرآةٍ للكون، يعكس جماله، ويفكّ شفراته،
ويذكّرنا أن الذكاء الأسمى ليس أن نفهم الحياة… بل أن نحياها بوعي الجمال فيها.


