كتب : بقلم : د. سيما حقيقي
ثمة لحظات نصادف فيها كلماتٍ أو لوحاتٍ أو ألحانًا، فنهتزّ من الداخل كأنّ شيئًا غامضًا قد لامس أرواحنا. نتساءل عندها: لماذا يبدو الفنان مختلفًا عن سائر البشر؟ لماذا حين يمرّ بيننا لا يكون فردًا عابرًا، بل حضورًا يفتح أبوابًا غير مرئية نحو العوالم الأرحب؟
الفنان ليس مجرد صانع للجمال، بل شاهد على المعنى، ورسول يذكّرنا بما يتجاوز الملموس. وجوده بين الناس ليس تفصيلاً عابرًا، بل إشارة إلى أن للحياة عمقًا آخر. ولهذا، تبدو التجارب أمام الفن—لوحة، قصيدة، أو لحن—كأنها صلاة صامتة، توقظ فينا إحساسًا بأن هناك سرًّا مشتركًا بين الروح والوجود.
«الفنان لا يعيش فقط على سطح الأرض، بل يتصل بشبكة الوعي الكوني، ويترك أثرًا حتى إن صمت. هو نافذة مفتوحة على السمو، وحضور يذكّرنا أننا أرواح تبحث عن ضوء.»
الفنان في جوهره لا يخلق ليُدهش الآخرين، بل لأنه مأخوذ ببحثٍ داخليٍّ لا ينتهي. إنه الكائن الذي يرى ما وراء الرؤية، يسمع ما لا يُقال، ويشعر بما لا يُلمس. الفن بالنسبة له ليس اختيارًا، بل قدرٌ يصوغ وجوده، يعلّمه الصبر، ويمنحه في كل تجربة ميلادًا جديدًا. إنه يعيش بين التناقضات: بين النور والظل، بين الهدوء والصخب، بين الانطفاء والاشتعال. لكنه، رغم ذلك، يبقى الشاهد الأصدق على أن المعنى يولد من قلب التناقض.
حين وقف الزوّار أمام لوحة “ليلة النجوم” لفان جوخ في متحف الفن الحديث بنيويورك، لم يشاهدوا مجرد دوّامات من الضوء على قماشٍ جامد، بل رأوا روحًا تتكلّم بلغةٍ لا تحتاج إلى ترجمة. كانت اللوحة بالنسبة لكثيرين تأملًا في السماء أكثر منها عملًا فنيًا. تلك الدوائر المتوهّجة فوق ليلٍ أزرق داكن لم تكن رسمًا فحسب، بل محاولة يائسة للقبض على الضوء في قلب العتمة، على الأمل في أحلك اللحظات. فان جوخ، الذي عاش صراعه الداخلي حتى نهايته، أدرك أن الفن ليس هروبًا من الألم، بل طريقة لفهمه، وتحويله إلى معنى.
الفنان الحقيقي لا يصنع الفن ليتجمّل به العالم، بل ليُنقذه. فهو يؤمن أن الجمال لا يقف عند حدود الشكل، بل يسكن في الفكرة، في الصدق، في قدرة اللون أو الكلمة أو النغمة على لمس جوهر الإنسان. لذلك، حين يبدع، لا يُنتج شيئًا جديدًا فقط، بل يُعيد اكتشاف نفسه والعالم من حوله في كل مرة.
العلم بدوره لم يغفل هذا الأثر الخفيّ للفن. فقد أظهرت دراسة في The Journal of Positive Psychology (2021) أن التعرّض للفن الملهِم يزيد من شعور الإنسان بمعنى الحياة عبر إثارة مشاعر الدهشة والتأمل. كما أوضحت أبحاث في Frontiers in Psychology (2022) أن التجارب الجمالية العميقة تُنشّط مناطق في الدماغ مسؤولة عن العاطفة والوعي الذاتي، مما يقلّل من التوتر ويخلق حالة انسجام داخلي تشبه التأمل. وكأنّ ما نشعر به أمام عمل فنيٍّ مدهش ليس مجرّد انفعال، بل تفاعل بين العقل والروح.
«الفن الحقيقي لا يحتاج إلى تفسير، بل يكفي أن يوقظ شيئًا فينا: دمعة مفاجئة، رعشة صامتة، أو يقظة هادئة تجعلنا نرى العالم بلون مختلف.»
من يقف أمام لوحات شاغال، لا يرى الألوان وحدها، بل يدخل في حوارٍ صامتٍ مع ذاكرةٍ مشتركة عن الحب والمنفى والطفولة. ومن يستمع إلى السيمفونية التاسعة لبيتهوفن، لا يسمع نغماتٍ مرتّبة فحسب، بل يشارك في طقسٍ جماعيٍّ من الإيمان بالإنسان. بيتهوفن، الذي كتب سيمفونيته وهو فاقد للسمع، أثبت أن الفن ليس سمعًا ولا رؤية، بل نبض داخليّ يسمع الكون كله صداه.
الفنان بهذا المعنى لا يُقاس بما يملك من أدواتٍ أو تقنياتٍ، بل بقدرته على أن يكون مرآة للروح الإنسانية. إنه يجسّد ما نخشى قوله، ويكشف ما نحاول إخفاءه. الفن في جوهره هو الشجاعة في مواجهة الصمت، والإصرار على التعبير رغم الجراح. كل عمل فني صادق هو شهادة ميلاد جديدة للحسّ الإنساني.
وعلى المستوى الجمعي، لا يعيش الفن في عزلة. أظهرت دراسة في Social Cognitive and Affective Neuroscience (2020) أن مشاركة التجارب الجمالية في جماعة تعزّز مشاعر الانتماء وتعمّق الروابط بين الأفراد. وربما لهذا، في المعارض الكبرى مثل بينالي البندقية أو دوكيومنتا كاسل، لا يأتي الزوار لمشاهدة الأعمال الفنية فقط، بل ليعيشوا تجربة الارتقاء الجماعي، حيث تتقاطع الأسئلة والدهشة، ويتحوّل المكان إلى طقسٍ إنسانيٍّ يذكّرنا أننا متشابهون رغم اختلافاتنا.
«الفنان لا يحترق ليُرى، بل يتوهّج ليُضيء. كل عمل يتركه خلفه هو غصن جديد في شجرة الحياة، يثبت أننا جميعًا متصلون بجذور واحدة.»
الفنان لا يسعى إلى المجد، لأن الفن الحقيقي لا يعرف الغرور. ما يبحث عنه هو الصدق؛ تلك اللحظة التي تتماهى فيها روحه مع ما يبدعه، فيشعر أن العمل لم يخرج منه فحسب، بل خرج منه وإليه في آنٍ واحد. هذه اللحظة التي يتوحّد فيها المبدع مع الفكرة هي التي تصنع الجمال، وهي التي تمنح الفن قدرته على البقاء.
الفن الروحي ليس ترفًا ولا رفاهية عابرة، بل هو ضرورة كالماء والهواء. إنه اللغة التي تنقذ الإنسان من التشيؤ، وتذكّره أن الحياة لا تُقاس بما يملك، بل بما يشعر، وما يُبقيه حيًّا من الداخل. الفن هو صوت الروح حين تصمت الضوضاء، والنور الذي يعيد ترتيب الظلال في أعماقنا.
وهكذا، يبقى الفنان حتى في صمته نقطة ضوء في ليلٍ طويل. أثره لا يزول، بل يتردد فينا كنبضٍ هادئ يذكّرنا أننا أكبر من تفاصيلنا الصغيرة، وأن الحياة لا تُعاش بالعين وحدها… بل بالقلب أيضًا.
«إن الفنان لا يعلّمنا كيف نرى العالم فحسب، بل كيف نراه من جديد، بصفاءٍ يجعلنا ندرك أن داخل كل واحدٍ منا قبسًا من نور لا يخبو.»
فالفنان هو من يعبر الحياة كما لو كان يعبر مرآة. يرى خلف الأشياء ما لا يراه سواه، يسمع في الصمت موسيقى خفيّة، ويقرأ في الضوء نبوءة جديدة للحياة. هو الكائن الذي يهبنا الشجاعة لنحلم، ويذكّرنا أن الجمال لا يُصنع بترف الحواس، بل بصدق الشعور، وأن الفن الحقيقي لا يسكن المتاحف فقط، بل يسكن فينا… في كل لحظة دهشة، وفي كل امتنان بسيط لأننا ما زلنا نُحسّ ونرى ونحب.
وربما خُلق الفنان ليذكّرنا أن الخلود ليس زمنًا، بل أثرٌ يتركه الجمال حين يمرّ بنا صادقًا.
فهل نستطيع، مثل الفنان، أن نضيءَ ولو مرةً… في ليل أحدهم الطويل؟
عدد المشاهدات: 0


