نعتقد إننا نحب، لكن الحقيقة إننا نتعامل مع “صورة” وليس “شخص”.
يسرا عبد العظيم ـ العرب نيوز اللندنية
قد نظن أننا نحب، وقد نهيم شوقًا وارتباطًا بشخصٍ نراه الأقرب إلى أرواحنا، لكن الحقيقة التي يغفل عنها الكثيرون، أن ما نشعر به في كثير من الأحيان ليس حبًا ناضجًا، بل انجذابًا إلى صورة ذهنية رسمناها بأنفسنا، لا إلى الإنسان الحقيقي أمامنا.
ما هو الإسقاط في العلاقات؟
“الإسقاط” هو أن نُلقي على الآخر مشاعرنا، تجاربنا، احتياجاتنا، وحتى ملامح من ماضينا. نراه بعيوننا نحن، لا كما هو في واقعه. فنتعامل مع “مرآة” تعكس دواخلنا، لا مع إنسان مستقل له وجوده وصفاته الخاصة.
فعقلنا الباطن، في محاولته المستمرة لسد الفراغات القديمة ومعالجة الجراح غير الملتئمة، قد يدفعنا إلى إسقاط صورة الأب أو الأم أو الحبيب الأول على الشريك الحالي. فقد ترى المرأة في زوجها قسوة والدها، أو حنانه، فتتفاعل معه من نفس النقطة القديمة. وقد يرى الرجل في زوجته ظلًا لوالدته، فيطلب منها الحنان أو يرفض منها التحكم.
متى يصبح الإسقاط خطيرًا؟
الإسقاط ليس بالضرورة شيئًا سلبيًا، فقد يدفعنا أحيانًا إلى العطاء الزائد، والحنان المفرط، لكن تكمن الخطورة حين ننصدم بالحقيقة. فعندما يتصرف الطرف الآخر عكس ما نتوقعه، أو لا يلبّي الاحتياجات التي أسقطناها عليه، تبدأ المشكلات وسوء الفهم. فكل طرف يرى الآخر من زاويته الخاصة، أحدهما يتعامل مع صورة، والآخر مع واقع.
أبرز أشكال الإسقاط:
1. إسقاط نماذج الأهل:
أن ترى في شريكك صورة أبيك أو أمك. فتعيد تكرار الجروح القديمة، أو تحاول تصحيح الماضي من خلال الحاضر.
2. إسقاط الاحتياجات غير المشبَعة:
حين نحمل في داخلنا فراغًا عاطفيًا منذ الطفولة أو من علاقة سابقة، نتوقع من الشريك الحالي أن يملأه. وهذا عبء ثقيل قد لا يقدر عليه.
3. إسقاط صورة الفارس المثالي:
أن نحمّل الآخر صفات مثالية رأيناها في القصص أو الخيال، ثم نُصدم حين يظهر منه ما يخالف تلك الصورة.
4. إسقاط الصفات الذاتية:
أحيانًا نرفض جزءًا في أنفسنا، فنسقطه على الشريك. كأن أكون عصبيًا ولا أتحمل عصبيتي، فأكرهها فيه، رغم أنها فيَّ.
كيف نميّز بين الحب الحقيقي والإسقاط؟
1. الرؤية الكاملة:
في الحب الحقيقي، نرى الشريك كما هو، بعيوبه وميزاته، ونتقبله دون محاولة لتغييره أو لتشكيله ليتناسب مع خيالنا.
2. الاستقلالية:
لا ذوبان كامل في الآخر، بل احتفاظ بالهوية الفردية، ومساحة شخصية لكل طرف.
3. التواصل العميق:
يكون الحوار صريحًا، والمشاعر مكشوفة، ويستمع كل طرف للآخر بصدق دون خوف أو تردد.
4. التقبل غير المشروط:
لا نحب لأن الآخر يحقق لنا شيئًا، بل نحبه لما هو عليه، وندعمه في مسيرته دون ضغط أو شروط.
5. المرونة والنمو:
العلاقة تتكيف مع الزمن والظروف، وتساعد كلا الطرفين على التطور والنضوج.
6. الأمان النفسي:
لا دراما متكررة ولا قلق دائم، بل سكينة وطمأنينة وراحة نفسية عند اللقاء
إن كنت تعيش علاقة قائمة على الإسقاط… فلا تخف!
فهذا ليس نهاية، بل بداية لرحلة وعي جديدة.
فقط اسأل نفسك:
ما هي احتياجاتي غير الملبّاة؟
من هي النماذج التي علقت في ذهني من الماضي؟
هل أرى شريكي كوسيلة لسد احتياج داخلي؟
ابدأ بالحوار مع ذاتك، ثم افتح باب الصراحة مع شريكك، وقل له:
“أريد أن أراك كما أنت، لا كما أرغب أن تكون، وأرغب أن تراني أنا كما أنا، لا كما يتوقعني الماضي في داخلك.”
خطوات عملية:
افصل بين الماضي والحاضر:
اعمل على شفاء جروحك مع مختص إن احتجت، وذكّر نفسك يوميًا أن شريكك ليس والدك، ولا والدتك، ولا حبيبك السابق.
ابنِ علاقة جديدة:
قوموا بأنشطة مختلفة سويًا، اخلقوا ذكرياتكما الخاصة، وتعرفوا على بعضكما كما أنتما الآن.
احترام المساحة:
لا بد من وجود حدود صحية ومساحة فردية لكل طرف داخل العلاقة.
استشارة مختص:
في حال تعقّدت الأمور، فإن معالجًا نفسيًا أو مختصًا بالعلاقات قد يكون عونًا كبيرًا لفهم الذات، وتعلّم الحب الناضج
ليس عيبًا أن نكتشف أننا نحب “صورة”، وليس “شخصًا”، لكن العيب أن نُصر على البقاء داخل هذه الصورة، دون أن نمنح أنفسنا فرصة لنحب حقًا، ونُحَبّ كما نحن.
الوعي بالإسقاطات أول خطوة نحو الحب الحقيقي.
نحو علاقة لا يُحمل فيها أحد عبء الماضي، بل يسير فيها كلٌّ من الطرفين جنبًا إلى جنب، لا ظلًا لغيره، بل شريكًا كما هو، محبوبًا كما هو.
عدد المشاهدات: 4