شربل مارون… سيّد البراري الذي خبّأ الغابة في جدران قلبه
بقلم الكاتبة اللبنانية _ مايا ابراهيم
في بنشعي، هناك رجلٌ استثنائي، اختار أن يُصالح الحياة مع الموت، وأن يربط الطبيعة بالزمن بخيطٍ من حبّ لا يبهت.
شربل مارون، هذا الاسم الذي لا يُشبه سواه، هو سيّد البراري وحارس سرّ الحياة البرّية في لبنان، وراوي حكاياتها الصامتة عبر متحفٍ غير تقليدي، يُخزّن الأرواح المحنّطة لكائنات مرّت من هنا وخلّفت وراءها مجد الغابات.
بعيدًا عن ضجيج المدن وأسفلتها، شيّد شربل مارون حلمه بيدَيه، وجعل من شغفه ملاذًا معرفيًّا وسياحيًّا وتعليميًّا.
متحف الحيوانات المحنّطة في بنشعي ليس مجرّد معرض للفرجة، بل هو مختبر عشق للطبيعة، ودليل ميدانيّ على غنى التنوّع البيولوجي اللبناني.
هو أكثر من مكان… هو ذاكرة حيّة، تُقيم على عتبة الغابة وتقاوم العدم.
من الطاووس إلى الذئب، ومن النسر إلى الخنزير البري، تمشي في القاعة كأنك تعبر جبال لبنان وغاباته كلها بخطوة واحدة.
كل حيوان هنا، له حكاية، وله وداع خاص دوّنه شربل بنبضه قبل أن يُثبّته بإبرة المحنِّط.
كل تفصيل في المعرض يُشبه صلاة صامتة على روح الغابة.
ما فعله شربل مارون ليس مجرّد جمعٍ أو توثيق.
هو رسالة بيئية، وإنسانية، وعاطفية، يقدّمها بتواضع الراهب الذي يخدم معبده، وبعين العالِم الذي يعرف قيمة ما بين يديه.
إنه يُربّي أجيالًا على حبّ الأرض، لا بالخُطب، بل بالمشهد الحيّ الذي لا يُمحى من ذاكرة الزوّار.
وحين تنظر في عينيه، تشعر كأن الطبيعة اختارته ليكون أمين سرّها الأخير.
ليس غريبًا أن يتحوّل متحفه إلى مقصد للمدارس والجامعات والعائلات، حيث يلتقي الطفل بدهشة الحيوان الذي رآه فقط في كتب المدرسة، وتلتقي المعرفة بالدهشة في لحظةٍ واحدة.
فما جمعه شربل على مدى سنوات، لم يكن مجرد أجساد، بل آثار أرواح لا تنقرض.
شربل لا يقتل الحيوان ليحنّطه، بل ينتظر أن تختم الطبيعة دورتها، ليمنح الكائن فرصة جديدة للوجود – بصيغة أخرى، في مكانٍ آخر، لحياةٍ ثانية في ذاكرتنا الجماعية.
إنه يُنقذها من الغياب، لا ليحبسها، بل ليمنحها خلودًا صغيرًا في عين الإنسان.
في وجه النسيان، يقف شربل مارون كأرزةٍ باسقة، يحفظ تنوّع الحياة البرية اللبنانية، ويصرخ بصمتٍ:
هذا الجمال لا يجب أن يُمحى.
ولعلّه، بهذا العمل الفردي النبيل، يكتب فصلاً من فصول المقاومة البيئية، في بلدٍ ينسى كثيرًا ويُهمل أكثر.
متحفه ليس فقط مكانًا، بل موقفٌ، ورؤية، ومهمة.
وفي زمنٍ تُهمل فيه القيم البيئية، يصرّ شربل على أن يُعيد للحيوانات حقّها في الحضور… حتى بعد الرحيل.
ومن هنا، تخرج الدعوة الصادقة إلى وزارة السياحة في لبنان:
ضعوا متحف شربل مارون على الخريطة السياحية الرسمية.
إنه ليس فقط موقعًا فريدًا، بل تجربة غنيّة، تفتح الباب على فهم أعمق للطبيعة اللبنانية وتاريخها البرّي.
إنه مساحة تثقيف ودهشة، تستحق أن تُدرج بين كنوز الوطن، وأن تُمنح الدعم اللائق كي تستمر وتزدهر.
فثمّة أماكن تصنعها الدولة، وأماكن تصنع الدولة… متحف شربل من الفئة الثانية.
في متحف شربل، لا نُشاهد فقط الحيوانات…
بل نُشاهد لبنان كما لم نره من قبل: بريئًا، نقيًّا، وصادقًا حتى العظم.
نراه منعكسًا في مرايا الطهارة والجمال الخام، كما لو أنّ الطبيعة قرّرت أن تبوح بسرّها مرة واحدة… من خلال عيني رجلٍ أحبّها حتى النهاية.
الإعلامية مايا إبراهيم
عدد المشاهدات: 16