.
أجرى الحوار: د. سهير بنت سند المهندي
في عالمٍ تتقاطع فيه الأرقام مع الفكر، وتتحول فيه المعرفة إلى أداة لقياس الوعي والعدالة معًا، يبرز الدكتور ميلاد رضوان كأحد العقول البحثية البارزة في منظومة النيابة العامة الليبية، من موقعه كمدير لإدارة البحوث والدراسات والإحصاء، ومسؤول عن الكتب والمكتبات، يجمع بين دقة التحليل العلمي وجمال الفكرة الثقافية، ليؤسس لفلسفة جديدة يمكن تسميتها بـ “العدالة المعرفية”، حيث تلتقي الورقة بالقانون، ويتحوّل الكتاب إلى رفيقٍ للقاضي والباحث والمواطن على حدٍّ سواء.
الكتاب كركيزة للعدالة المعرفية
دكتور ميلاد، كيف تنظرون إلى العلاقة بين الكتاب والعدالة؟ وهل يمكن أن يكون الكتاب أداة لتحقيق التوازن الاجتماعي مثل القانون؟
د. ميلاد رضوان: بالتأكيد، الكتاب هو أول شكلٍ من أشكال العدالة الرمزية، لأنه يمنح الجميع فرصة متكافئة للوصول إلى الحقيقة. نحن نؤمن أن العدالة تبدأ من الوعي، وأن الوعي لا يُبنى إلا بالقراءة والمعرفة. لذلك سعينا في إدارة البحوث إلى جعل الكتاب ركيزة أساسية في بناء الثقافة العدلية داخل مؤسسات الدولة والمجتمع.
كونكم مسؤولاً عن الكتب والمكتبات، كيف تم اختيار الإصدارات المشاركة في المعرض؟
د. رضوان: ركّزنا على تنوّع المحتوى، فجمعت المعروضات بين الكتب القانونية الصرفة، والدراسات الاجتماعية، والكتب الفكرية التي تضيء الجانب الإنساني من العدالة. كما حرصنا على أن تكون الإصدارات من مؤسسات عربية ودولية معروفة، حتى نعكس في هذا المعرض صورة ليبيا المنفتحة على الفكر العالمي.
هل تعتبرون أن هذا المعرض يمثّل مكتبة عدلية مفتوحة للمجتمع؟
د. رضوان: نعم، هذا هو الهدف الحقيقي. أردنا أن نحول المعرفة العدلية من أرشيف مغلق إلى فضاء عام، لأن العدالة التي تُغلق كتبها على نفسها تفقد مصداقيتها. المعرض هو في جوهره مكتبة وطنية متحركة، تتيح للمواطنين والباحثين والمثقفين أن يلمسوا روح القانون عبر الكلمة المطبوعة.
كيف يمكن أن تتحول المكتبات العدلية من أرشيف جامد إلى فضاء فكري تفاعلي؟
د. رضوان: عبر التحول من ثقافة “التوثيق” إلى ثقافة “التداول”،. نحن نعمل على إنشاء مكتبات تفاعلية داخل المؤسسات العدلية، تحتوي على جلسات نقاش وندوات فكرية ودوريات بحثية رقمية. العدالة ليست ملفات فقط، بل بيئة معرفية تتيح التفكير الحر داخل إطار القانون.
الإحصاء والمعرفة… لغة العقل في خدمة العدالة
كيف يوظّف المركز الإحصاء والبيانات في دعم القرارات القانونية والعدلية؟
د. رضوان: الإحصاء هو عين العدالة الحديثة. من خلاله نقرأ الواقع كما هو لا كما يُتوقع أن يكون. نستخدم البيانات لتحليل أنماط الجريمة، وتحديد المناطق الأكثر عرضة للانتهاكات، ووضع خطط وقائية. فالأرقام لا تكذب، لكنها تحتاج إلى عقلٍ يُحسن قراءتها.
هل هناك علاقة بين الإحصاء والعدالة الوقائية؟
د. رضوان: علاقة وثيقة جدًا. الإحصاء يُمكّننا من رؤية الخطر قبل أن يحدث. فمثلاً، حين نحلل نسب الجرائم الاقتصادية أو العنف الأسري، يمكننا أن نستنتج المؤشرات الاجتماعية المسببة، ونقترح سياسات لمعالجتها. هكذا تتحول العدالة من رد فعل إلى فعلٍ استباقي.
ما أبرز المؤشرات الإحصائية التي كشفت عنها دراساتكم الأخيرة؟
د. رضوان: أظهرت الدراسات ارتفاعًا ملحوظًا في الجرائم السيبرانية، وتراجعًا في جرائم العنف التقليدي، ما يعكس تغير طبيعة السلوك الإجرامي في ليبيا. كما لاحظنا نموًا في الوعي القانوني لدى فئة الشباب، وهو مؤشر إيجابي يدل على نجاح الجهود التثقيفية.
كيف تدمجون التحليل الكمي بالتحليل النوعي في إنتاج المعرفة العدلية؟
د. رضوان: نستخدم الأرقام كبوابة للفهم، ثم نحلل خلفها الظواهر الفكرية والاجتماعية. مثلاً، إذا أظهرت الإحصاءات ارتفاعًا في نوع محدد من القضايا، نحاول فهم “لماذا”، وليس فقط “كم”. هذه المقاربة تجعل من البحث العلمي أداة فكرية لا مجرد جداول وأرقام.
إدارة البحوث… من التنظير إلى التأثير
كيف تُدار منظومة البحوث داخل المركز؟
د. رضوان: لدينا هيكل بحثي متكامل يشمل وحدات للإحصاء والتحليل والكتابة القانونية، إضافة إلى لجان مراجعة علمية تضمن جودة المخرجات. كل بحث يبدأ بسؤال وطني، وينتهي بتوصية عملية تُرفع للنائب العام أو تُنشر في دورياتنا العلمية.
ما نوع الأبحاث التي يوليها المركز الأولوية؟
د. رضوان: نركز على الأبحاث ذات الطابع التطبيقي التي تخدم القضايا الوطنية مثل الأمن السيبراني، الجرائم الاقتصادية، العدالة الوقائية، والذكاء الاصطناعي في التحقيق الجنائي. هدفنا ليس التنظير الأكاديمي فقط، بل التأثير العملي في الواقع العدلي.
كيف تقيسون أثر البحث العلمي على أداء العدالة في ليبيا؟
د. رضوان: نقيسه من خلال انعكاس التوصيات على القرارات والسياسات. عندما تتحول نتائج الدراسة إلى تعديل في إجراء قضائي أو تطوير تشريعي، نكون قد أنجزنا هدفنا. وهذا بدأ يحدث بوضوح في ملفات مثل الجرائم الإلكترونية ومكافحة الفساد.
هل هناك توجه لتبني دراسات مشتركة مع الجامعات؟
د. رضوان: نعم، نحن في صدد توقيع اتفاقيات تعاون مع الجامعات الليبية لإطلاق “برنامج الباحث العدلي”، الذي يتيح لطلبة الدراسات العليا المشاركة في مشاريع بحثية تطبيقية، بما يعزز الجسر بين النظرية الأكاديمية والممارسة القانونية.
فلسفة الكتاب والمكتبة
ما الفلسفة التي تحكم رؤيتكم للمكتبة العدلية؟
د. رضوان: أرى أن المكتبة العدلية ليست مكانًا لحفظ الكتب، بل فضاءً لصناعة الفكر القانوني. كل كتاب فيها هو “شاهد” على تجربة إنسانية في فهم العدالة. لذلك نسعى لتحويل المكتبة إلى مختبر معرفي يعيد للقانون روحه الإنسانية.
هل ما زال الورق يحتفظ بسحره في زمن الرقمنة؟
د. رضوان: بالتأكيد. الورق مثل الذاكرة، لا يمكن استبداله بالكامل. التكنولوجيا تسهّل الوصول، لكن الورق يمنحك تجربة اللمس والتأمل، وهي لحظة لا يعوضها أي جهاز. نؤمن أن الرقمي والورقي ليسا خصمين بل شريكين في بناء الوعي.
ما الدور الذي يمكن أن تلعبه المكتبات في صياغة وعي المجتمع القانوني؟
د. رضوان: المكتبة العدلية يمكن أن تكون مدرسة للوعي العام، إذا فُتحت أبوابها للمجتمع. فالقانون يصبح أكثر عدلاً حين يقرأه الناس، لا حين يحتكره المختصون.
ما هي الكتب أو المجالات التي لاحظتم إقبالاً عليها خلال المعرض؟
د. رضوان: لاحظنا اهتمامًا كبيرًا بموضوعات العدالة الرقمية، والجرائم الإلكترونية، والتنمية القانونية. وهذا يدل على أن العقل الليبي أصبح يقرأ المستقبل، لا الماضي فقط.
التحول الرقمي والمعرفة التفاعلية
هل هناك خطة لتحويل المكتبات العدلية إلى مكتبات رقمية ذكية؟
د. رضوان: نعم، بدأنا في إنشاء نظام فهرسة إلكتروني متكامل يتيح للباحثين الوصول إلى الكتب والأبحاث بسهولة من أي مكان. المرحلة المقبلة ستشهد مكتبات عدلية رقمية مزوّدة بتقنيات الذكاء الاصطناعي لتصنيف المحتوى واقتراح المراجع.
كيف يمكن استخدام الذكاء الاصطناعي في تصنيف وفهرسة الكتب؟
د. رضوان: الذكاء الاصطناعي قادر على قراءة المحتوى وتحديد موضوعاته تلقائيًا، مما يوفر وقتًا وجهدًا هائلين. كما يمكنه ربط المفاهيم القانونية ببعضها، فيخلق شبكة معرفية ديناميكية تتيح للقارئ الوصول إلى المعلومات بذكاء وسرعة.
هل تتجهون لإنشاء منصة معرفية إلكترونية تضم الإصدارات القانونية الليبية؟
د. رضوان: نعم بدأنا بالفعل في تدشين منصة رقمية للأبحاث و الدرسات تضم جميع مخرجات المركز وستكون متاحة لجميع الباحثين و المهتمين بالدراسات القانونية
كيف تقيمون دور البيانات المفتوحة في تعزيز الشفافية؟
د. رضوان: البيانات المفتوحة هي الوجه الرقمي للعدالة. كلما أُتيح للمجتمع الاطلاع على المعلومات القانونية بشكل منظم ومسؤول، ارتفعت الثقة في المؤسسات العدلية، وانخفضت المسافة بين المواطن والقانون.
الإنسان وراء المنصب
أنت باحث ومفكر قبل أن تكونوا إداريًا… ما الذي يلهمكم أكثر: الأرقام أم الكتب؟
د. رضوان: الحقيقة أنني أعيش بين الأرقام والكتب كما يعيش القلب بين العقل والعاطفة. الأرقام تعطيني الدقة، والكتب تمنحني المعنى. كلاهما يكمّل الآخر في فهم العدالة.
ما أول كتاب شكّل وعيكم؟
د. رضوان: كتاب “روح القوانين” لمونتسكيو. اكتشفت من خلاله أن القانون لا يعيش في النصوص، بل في المجتمع. ومنذ ذلك الوقت، أدركت أن العدالة مشروع حضاري لا قانوني فحسب.
كيف تنظرون إلى الكتاب بوصفه “كائنًا حيًا” يتنفس في ضمير المجتمع؟
د. رضوان: الكتاب يشبه الشجرة، كلما قرأه أحد نبت فيه فرع جديد. إنه لا يموت، بل يتجدد كلما تغيّر القارئ. لذلك أراه كائنًا حيًا يحمل ضمير الأمة ويُذكّرها بمن تكون.
إذا طلبت منكم أن تلخّصوا تجربتكم في عبارة، فهل تقولون: “العدالة تُقاس بالأرقام أم تُروى بالحروف؟”
د. رضوان: العدالة تُقاس بالأرقام حين نبحث عن الحقيقة، وتُروى بالحروف حين نمنحها روحًا. وبين الرقم والحرف، تولد العدالة التي تليق بالإنسان


