أجرى الحوار: د. سهير بنت سند المهندي
في قلب التحول العدلي الذي تشهده ليبيا، يبرز مركز البحوث الجنائية والتدريب كأحد أهم أذرع النيابة العامة في بناء منظومة عدالة حديثة تستند إلى العلم والمعرفة والتكنولوجيا.
في هذا اللقاء، نتحاور مع الدكتور محمد الأسود، المدير التنفيذي لمركز البحوث الجنائية والتدريب في النيابة العامة اللليبية ، حول فلسفة العدالة الجديدة، ودور البحث العلمي والتدريب في صياغة القرار القضائي، وصولًا إلى المشروع الوطني للتحول الرقمي الذي يُعد اليوم حجر الزاوية في تحديث المؤسسة العدلية.
دور المركز في التحول العدلي الحديث
بدايةً، حدثنا عن الرؤية الاستراتيجية لمركز البحوث الجنائية والتدريب، وكيف يساهم في تطوير الأداء العدلي في ليبيا؟
د. محمد الأسود: رؤيتنا تقوم على أن العدالة الحديثة لا تُبنى بالمرافعات فقط، بل تُصاغ بالمعرفة والبحث والتأهيل، نحن نعمل على تطوير منظومة العدالة الليبية من خلال ربط الممارسة الميدانية بالبحث العلمي، وتزويد مؤسسات النيابة العامة بأدوات تحليلية وإحصائية تساعد في اتخاذ القرار المبني على الأدلة، مركزنا أصبح مختبرًا للسياسات العدلية، وبيت خبرة وطني يعتمد عليه صانع القرار في رسم الاستراتيجيات القانونية المستقبلية.
ما أبرز التحولات التي يشهدها المركز في ظل مشروع “العدالة الرقمية” الذي أطلقه النائب العام؟
د. الأسود: التحول الرقمي لم يكن مجرد تحديث إداري، بل هو ثورة فكرية داخل المؤسسة العدلية، لقد بدأنا بميكنة العمل الإجرائي، وتحويل قواعد البيانات الورقية إلى منصات رقمية تفاعلية، مما أتاح سرعة الوصول للمعلومة ودقة التحليل، واليوم نحن نعمل على دمج الذكاء الاصطناعي في تحليل الأنماط الجنائية لتوجيه التحقيقات على أسس علمية.
كيف يمكن للبحوث الجنائية أن تكون أداة لصنع القرار في المجال القضائي؟
. الأسود: البحوث الجنائية تمثل العقل المفكر للنيابة العامة، فهي تتيح لنا فهم الظواهر الإجرامية في أبعادها الاجتماعية والاقتصادية، مما يساعد على صياغة سياسات وقائية قبل وقوع الجريمة، على سبيل المثال، تحليلنا لبيانات الجرائم الإلكترونية مكّننا من اقتراح تشريعات وقائية فعّالة، أثمرت انخفاضًا ملموسًا في معدلاتها.
هل يمكن القول إن المركز أصبح الذراع البحثية والفكرية للنيابة العامة؟ وكيف تترجم هذه العلاقة عمليًا؟
د. الأسود: نعم، نحن نُعد الذراع الفكرية والعلمية للنيابة العامة، نترجم هذه العلاقة من خلال إعداد دراسات لصالح مكتب النائب العام، وتصميم برامج تدريبية موجهة لأعضاء النيابة والمحققين، ونشر أوراق بحثية تُسهم في تطوير التشريعات، هذه الشراكة الفكرية تجعل من النيابة العامة مؤسسة تتعلم وتتطور باستمرار.
معرض النيابة العامة الدولي للكتاب – العدالة حين تقرأ
ما الفكرة الجوهرية التي دفعتكم لتنظيم معرض دولي للكتاب تحت مظلة النيابة العامة؟
د. الأسود: الفكرة انطلقت من إيماننا بأن العدالة لا تكتمل دون ثقافة. أردنا أن نعيد للكتاب مكانته في قلب المؤسسة العدلية، وأن نجعل من المعرفة شريكًا في صياغة الوعي القانوني. هذا المعرض هو إعلان رمزي بأن القانون ليس جافًا، بل هو فكر حيّ يتغذى بالثقافة.
في رأيكم، كيف تلتقي العدالة مع الثقافة في مشروع واحد؟
د. الأسود: العدالة بلا ثقافة تتحول إلى نص جامد، والثقافة بلا عدالة تصبح ترفًا فكريًا، حين يلتقيان، يولدان وعيًا مجتمعيًا راقيًا يرفض الظلم ويقدّس الإنسان، لذلك أردنا أن يكون المعرض جسرًا بين المثقفين ورجال القانون، حيث يتحدث القاضي والمفكر بلغة واحدة: لغة الكتاب.
ما الرسائل التي أردتم إيصالها من خلال هذه التظاهرة؟
د. الأسود: رسالتنا أن النيابة العامة ليست جهة اتهام فحسب، بل مؤسسة تنوير، أردنا أن نقول إننا نكتب التاريخ بالمعرفة، ونرسخ ثقافة قانونية تبني الإنسان قبل أن تحاكمه.
كيف كان التفاعل من الجهات العربية والدولية المشاركة؟ وهل هناك نية لجعل المعرض منصة سنوية؟
د. الأسود: التفاعل كان مذهلاً، وشارك معنا أكثر من عشرين جهة عربية ودولية بين مؤسسات عدلية وثقافية، نخطط بالفعل لأن يكون المعرض منصة سنوية عربية للعدالة والثقافة، لأن التجربة أثبتت أن الحوار الثقافي هو أقصر طريق لتقريب الشعوب القانونية والفكرية.
البحث العلمي والتدريب كدعامة للعدالة
كيف يساهم المركز في تأهيل الكوادر العدلية والقضائية؟
د. الأسود: لدينا منظومة تدريبية متكاملة تشمل الدورات التخصصية وورش المحاكاة والتطبيقات الرقمية، نؤمن بأن كل قاضٍ أو محقق يجب أن يكون باحثًا في الوقت ذاته، لذلك ندمج التدريب بالبحث لتخريج جيل من العدليين الملمين بالتكنولوجيا والعلوم الإنسانية.
هل يتبنى المركز منهجية علمية في تحليل الظواهر الجنائية؟
د. الأسود: نعم، نستخدم المنهج الإحصائي والتحليل المقارن لدراسة الظواهر، ونصدر تقارير دورية تُرفع إلى النائب العام تتضمن مؤشرات علمية تساعد في التخطيط التشريعي والجنائي.
ما أبرز مخرجات البحوث في السنوات الأخيرة؟
د. الأسود: من أبرزها دراسة حول الجرائم الإلكترونية العابرة للحدود، وأخرى عن العدالة التصالحية في المجتمعات المحلية، إضافة إلى دليل علمي للوقاية من التطرف عبر التعليم القانوني.
التحول الرقمي في العدالة
ما طبيعة التعاون بين مركز البحوث ووحدة التحول الرقمي في النيابة العامة؟
د. الأسود: العلاقة تكاملية تمامًا، فنحن نزوّد وحدة التحول الرقمي بالبيانات والتحليلات التي تساعد في تصميم الأنظمة الإلكترونية، بينما توفّر الوحدة لنا البنية التكنولوجية لتطبيق مفاهيم “العدالة الذكية”.
ما أبرز التحديات التقنية في رقمنة العدالة الليبية؟
د. الأسود: أهمها ضعف البنية التحتية التقنية في بعض المناطق، والحاجة إلى تدريب الكوادر العدلية على العمل الرقمي، لكن الإرادة المؤسسية اليوم أقوى من أي وقت مضى لتجاوز هذه العقبات.
هل هناك نية لإطلاق قاعدة بيانات جنائية وطنية موحدة؟
د. الأسود: نعم، المشروع قيد التنفيذ حاليًا بالتعاون مع الجهات الأمنية والقضائية، الهدف هو توحيد مصادر المعلومات وتسهيل الوصول إليها في إطار يحافظ على السرية القضائية والخصوصية.
كيف يمكن توظيف الذكاء الاصطناعي في دعم العدالة الجنائية؟
د. الأسود: نعمل على تطوير نظام يعتمد على تحليل البيانات الضخمة للتنبؤ بالأنماط الإجرامية، واستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي في مراجعة المستندات وتحليل الأدلة، مما يسهم في تسريع العدالة دون المساس بموضوعيتها.
الشراكات العربية والدولية
ما أبرز أوجه التعاون بين المركز والمؤسسات العدلية العربية؟
د. الأسود: لدينا تعاون مثمر مع مراكز عدلية في مصر، والأردن، والمغرب، كما نشارك في برامج تدريبية مشتركة مع المعهد العربي لحقوق الإنسان، ونسعى لتعزيز التنسيق الإقليمي في قضايا العدالة الرقمية.
هل توجد اتفاقيات بحثية أو تدريبية دولية؟
د. الأسود: نعم، تم توقيع مذكرات تفاهم مع الأمم المتحدة والمنظمة العربية للتنمية الإدارية لتطوير برامج تدريبية متخصصة في العدالة الوقائية والتحول الرقمي.
ما الدور الذي يمكن أن تلعبه المنظمات الدولية في دعم مسار العدالة الليبية؟
د. الأسود: المنظمات الدولية شريك أساسي في نقل الخبرة وتبادل المعرفة. نؤمن أن العدالة الليبية يمكن أن تكون نموذجًا عربيًا في التحول من العدالة التقليدية إلى العدالة الذكية.
البعد الإنساني والثقافي
كيف تنظرون إلى العلاقة بين القانون والإنسان؟
د. الأسود: القانون وجد لخدمة الإنسان لا لقهره، العدالة في جوهرها رسالة رحمة، وليست مجرد نصوص عقابية، لذلك نعمل على ترسيخ مفهوم العدالة الإنسانية التي توازن بين الحق والرحمة.
ما القيمة التي تؤمنون بترسيخها في كل باحث أو محقق عدلي؟
د. الأسود: الأمانة الفكرية قبل الأمانة القانونية، لأن من يكتب تقريرًا علميًا غير نزيه قد يضلل العدالة كما يضللها شاهد زور.
إذا اختصرتم رسالتكم في عبارة، ماذا تقول العدالة الليبية اليوم للعالم؟
د. الأسود: العدالة الليبية تقول للعالم: نحن نكتب قانوننا بالحروف، ونبنيه بالعقول، ونحميه بالإنسان.
عدد المشاهدات: 0



