أجرى الحوار: د. سهير بنت سند المهندي
في زمن تتعالى فيه أصوات الإصلاح المؤسسي في ليبيا، تأتي مبادرة معرض النيابة العامة الدولي للكتاب لتفتح بابًا جديدًا للعدالة… لا في قاعات المحاكم، بل في فضاء الفكر والثقافة.
عن هذه الفلسفة الجديدة التي جعلت من العدالة خطابًا إنسانيًا وثقافيًا جامعًا، نحاور الدكتور عبدالسلام الديفار، عضو اللجنة التحضيرية والثقافية للمعرض، الذي حمل رؤية متجددة عنوانها أن “العدالة تقرأ، وتكتب، وتتحاور”.
فلسفة المعرض ودوره في المشهد الليبي
دكتور عبدالسلام، ما الرؤية التي انطلقت منها فكرة تنظيم معرض النيابة العامة الدولي للكتاب؟
الفكرة ولدت من قناعة عميقة بأن العدالة ليست مجرد مؤسسة قانونية، بل منظومة قيم وثقافة، أردنا أن نعيد الاعتبار للكتاب بوصفه وسيلة للتنوير والوعي، وأن نكسر الصورة النمطية عن النيابة العامة باعتبارها سلطة قضائية مغلقة، فاليوم، من داخل مؤسسة العدالة، نرسل رسالة انفتاح على الفكر والثقافة والمعرفة، لأن القانون من دون ثقافة يتحول إلى نص بلا روح.
كيف تمكّنتم من الجمع بين سلطة القانون وروح الثقافة في فعالية واحدة بهذا الحجم؟
ذلك كان التحدي الحقيقي، لكننا تعاملنا مع الفكرة بروح تكاملية، فالقاضي والكاتب والمفكر جميعهم يسعون للحقيقة، وإن اختلفت أدواتهم، نحن لم نضع القانون في مواجهة الثقافة، بل جعلنا الثقافة جسرًا لتجديد القانون، لهذا جاء المعرض في صورة تظاهرة معرفية تجمع القاضي والمثقف على منصة واحدة، يتحدثان بلغة مشتركة هي “العدالة الإنسانية”.
ما الرسالة الأعمق التي أرادت اللجنة الثقافية إيصالها من خلال هذه التظاهرة؟
رسالتنا أن العدالة الليبية تدخل مرحلة جديدة من وعيها بذاتها، أردنا أن نقول إن العدالة ليست سلطة، بل مسؤولية، وأن الثقافة قادرة على أن تعيد للعدالة وجهها الإنساني، فكل كتاب في هذا المعرض هو لبنة في بناء وعي جديد للوطن.
هل يمكن القول إن هذا المعرض يشكّل نقطة تحول في علاقة المؤسسة العدلية بالمجتمع؟
بالتأكيد، إنها لحظة تحول، المعرض هو بمثابة “نافذة مفتوحة” للمجتمع على مؤسسات العدالة، لقد بدأ المواطن يرى النيابة العامة كحاضنة للثقافة لا كجهة قضائية بعيدة، وهذا بحد ذاته مكسب وطني كبير.
العدالة والثقافة… لغة جديدة للحوار
كيف تنظرون إلى العدالة كقيمة ثقافية، وليست فقط منظومة قانونية؟
العدالة في أصلها فعل ثقافي قبل أن تكون نصًا قانونيًا، فالمجتمع العادل هو الذي يتربى على قيم العدل في بيته ومدرسته وإعلامه، حين تصبح العدالة ثقافة، تصبح جزءًا من سلوك الناس لا من أحكام المحاكم فقط.
ما الدور الذي يمكن أن تلعبه الثقافة القانونية في بناء وعي شعبي يساند العدالة؟
الوعي القانوني هو خط الدفاع الأول عن المجتمع، كلما فهم المواطن حقوقه وواجباته، تراجع الظلم والفساد، لذلك نحرص على أن تتحول الثقافة القانونية إلى مادة حية تُدرّس، وتُناقش، وتُبسّط عبر الإعلام والتعليم.
ما أبرز الموضوعات الفكرية التي أثرتها الندوات المصاحبة للمعرض؟
ناقشنا موضوعات تمس صميم العلاقة بين الإنسان والقانون، مثل “العدالة الرقمية والحق في الخصوصية”، و“دور الثقافة في الوقاية من الجريمة”، و“الكتاب كأداة لبناء الوعي المجتمعي”. هذه الندوات كانت بمثابة عصف فكري فتح أبواب الحوار بين رجال القانون والمثقفين.
كيف تفاعل المثقفون مع فكرة أن مكتب النائب العام هو من يرعى مشروعًا ثقافيًا بهذا العمق؟
في البداية كان هناك دهشة إيجابية، لأن الحدث غير مسبوق عربيًا، لكن ما لبث أن تحوّل هذا الشعور إلى تقدير كبير، رأينا مثقفين عربًا يقولون إن ليبيا تعطي درسًا جديدًا في أن العدالة لا تنفصل عن الفكر، وأن النائب العام أصبح راعيًا لثقافة الوطن لا فقط لحماية القانون.
البعد العربي والدولي للحدث
كيف تقيّمون الحضور العربي والدولي الواسع في هذه الدورة؟
الحضور كان مهيبًا من حيث التنوع والرمزية، شاركت وفود من أكثر من 18 دولة عربية وأجنبية، ووجودها لم يكن بروتوكوليًا، بل تفاعليًا، إذ جرى تبادل أفكار وتجارب حول العدالة الرقمية والثقافة القانونية، لقد شعرنا أن طرابلس أصبحت عاصمة عربية للحوار بين العدالة والثقافة.
ما أبرز الانطباعات التي رصدتموها من الوفود المشاركة؟
معظم الوفود أبدت إعجابها بجرأة الفكرة وبالتنظيم الدقيق، وأكدت أن هذه التجربة تستحق أن تتحول إلى نموذج عربي دائم، بعض الدول عرضت التعاون لتنظيم فعاليات مشتركة، وهذا دليل على أن العدالة حين تفتح أبوابها للفكر، تفتح معها أبواب التعاون الدولي.
هل يفتح المعرض آفاق تعاون ثقافي وعدلي بين ليبيا والدول العربية؟
نعم، بدأنا بالفعل صياغة اتفاقيات تعاون في مجال النشر القانوني والتدريب الثقافي مع مؤسسات عربية عدة، نؤمن أن العدالة العربية يمكن أن تتكامل عبر ثقافة الحوار لا عبر الحدود السياسية.
إلى أي مدى ساهم الحدث في ترسيخ صورة ليبيا كدولة تسعى لتجديد العدالة بثقافة الانفتاح؟
هذا المعرض قدّم صورة مختلفة لليبيا، دولة تؤمن بالانفتاح الفكري وبأن العدالة ليست مؤسسة مغلقة بل حوار مفتوح مع العالم. لقد خرجنا من دائرة الدفاع إلى دائرة المبادرة، وهذه خطوة مهمة في إعادة تموضع ليبيا ثقافيًا وعدليًا في المنطقة.
دور اللجنة التحضيرية والثقافية
حدثنا عن طبيعة عمل اللجنة التحضيرية والثقافية وكيف تم التنسيق بين الجانبين القانوني والفكري؟
كان هناك انسجام جميل بين الجانبين القانونيون قدّموا الضبط والمنهج، والمثقفون قدّموا الرؤية والخيال، عملنا كفريق واحد بروح تكاملية، لأننا كنا نؤمن أن العدالة لا تنجح إلا إذا تكلّمت بلغة الثقافة، وأن الثقافة لا تثمر إلا إذا حماها القانون.
ما أبرز التحديات التي واجهتكم في إعداد البرنامج الثقافي؟
التحدي الأكبر كان الزمن، إذ أُنجز الإعداد خلال فترة قصيرة جدًا، لكننا تغلبنا على ذلك بفضل روح الفريق والإيمان برسالة المشروع، كما واجهنا تحدي المواءمة بين الجدية العدلية والانفتاح الثقافي، ونجحنا في الموازنة بينهما بدقة.
كيف تم اختيار الموضوعات والمتحدثين؟
اعتمدنا مبدأ التنوع والتكامل، أردنا أن يجتمع في المنصة قاضٍ ومفكر وأديب وتقني، لأن العدالة اليوم لا تُبنى بنص القانون وحده، بل بمزيج من الفكر والمعرفة والتكنولوجيا.
ما الذي ميز هذه الدورة عن الأولى؟
أنها حملت بعدًا دوليًا واضحًا، ورسّخت مفهوم العدالة كقوة ناعمة ثقافية، هذه الدورة لم تكن حدثًا عابرًا بل إعلانًا عن بداية مشروع فكري مؤسسي داخل العدالة الليبية.
الثقافة كقوة ناعمة للعدالة
كيف يمكن للثقافة أن تكون أداة من أدوات العدالة الناعمة في المجتمع؟
الثقافة تربي الضمير قبل أن تحكم السلوك، وهي بذلك تحقق ما لا يمكن أن يحققه القانون وحده، العدالة الناعمة هي تلك التي تُصلح بالعقل لا بالعقوبة، وتُقنع بالمعرفة لا بالإكراه، حين يفكر المواطن بعدل، لا يحتاج القانون إلى معاقبته.
هل تتوقعون استمرارية هذا التوجه الثقافي في مؤسسات الدولة الأخرى؟
نعم، نحن نرى اليوم بداية وعي مؤسساتي بأهمية الثقافة في التنمية القانونية، وقد تلقت بعض الجهات الحكومية دعوة للاستفادة من التجربة، أعتقد أن ليبيا تتجه نحو نموذج جديد يجعل الثقافة عنصرًا أصيلًا في أي مشروع إصلاحي.
ما الذي تحتاجه ليبيا لتجعل من الثقافة القانونية مشروعًا وطنيًا متكاملًا؟
تحتاج إلى إرادة سياسية ومجتمعية موحدة، وإلى ربط القانون بالتربية والتعليم والإعلام، الثقافة القانونية يجب أن تبدأ من المدرسة، لأن الجيل الذي يتربى على احترام القانون لن يحتاج يومًا لمحاكمته.
رؤيته المستقبلية وفلسفته الشخصية
أنتم تجمعون بين الفكر والثقافة والإدارة، كيف تترجمون هذا المزيج في رؤيتكم للعدالة؟
أؤمن أن العدالة فكرة إنسانية قبل أن تكون وظيفة إدارية، الإدارة تنظم، لكن الفكر يُنير الطريق. لهذا أرى أن النجاح في أي مشروع عدلي يحتاج إلى روح مثقفة لا تخاف من السؤال ولا تتردد في التغيير.
ما العبارة التي تختصر فلسفتكم في العلاقة بين الكتاب والقانون؟
الكتاب هو قاضٍ صامت، والقانون هو كتاب ناطق. كلاهما يبحث عن الحقيقة من طريق مختلف، لكنهما يلتقيان عند هدف واحد: الإنسان.
كيف ترون دور المثقف العربي في إعادة تشكيل صورة العدالة في أوطاننا؟
المثقف هو ضمير الأمة، وصوته هو ميزان العدالة الأول، إذا سكت المثقف، اختلّ التوازن بين السلطة والمجتمع. لذلك أقول إن المثقف يجب أن يكون شريكًا لا متفرجًا في صياغة العدالة الجديدة.
ما رسالتكم للمثقفين العرب بعد هذه التجربة الليبية الرائدة؟
رسالتي أن يثقوا بأن الكلمة قادرة على إصلاح ما تعجز عنه المحاكم. وأن يقرأوا العدالة لا كقانون، بل كضمير. فالثقافة ليست ترفًا في زمن التحولات، بل هي الضمان الأخير لكرامة الإنسان.


