كتب : د. سيما حقيقي
المعرض الفني … حين يبوح الفنان وتنصت العيون
بقلم: د. سيما حقيقي
في صالات العرض لا تُعرض اللوحات فقط… بل تُكشَف الأرواح. فليس كل من وقف أمام عملٍ فني قد رآه فعلًا؛ هناك من يرى اللون، وهناك من يلمح الضوء، لكنّ القلّة فقط هي من تُبصر ما خلف السطح… وتلتقي بذاتها في خطوطٍ لم ترسمها هي، لكنّها تعبّر عنها تمامًا.
الفن ليس ترفًا ولا رفاهية، بل هو الباب الخفي الذي نعبر من خلاله إلى أعماق لا نملك لغتها. وحين تُعرض لوحة في معرض، فإنها لا تقف على الحائط وحيدة؛ بل تحمل على سطحها تاريخًا، وذاكرةً، وارتجافة شعورٍ لم يُكتب بعد. هي ليست نتاج يدٍ مسكت الفرشاة فحسب، بل صدى روحٍ تقاطعت فيها اللحظة بالحلم، والجمال بالجرح.
كل فنانٍ، حين يعلّق عمله في معرض، يُقدّم وثيقة شعورية مكتوبة بلغة لا تُترجم. هو لا يضع ألوانه للعرض، بل يضع جزءًا من ذاته للقراءة. لوحاتنا لا تمثّلنا فقط، بل تفضحنا أحيانًا؛ تقول ما لم نستطع قوله، وتكشف عن تلك الترددات الخفية التي نبثّها دون وعي، فترتجف لها العيون الحسّاسة، وتستقر في قلب المتلقّي كما يستقر السرّ في حضن من يفهمه.
أما المتلقّي… فليس دوره أن “يفهم” اللوحة، بل أن يشعر بها. أن يصغي إلى الصوت الخفيّ الكامن تحت الملمس، وأن يلتفت إلى ما يُثيره اللون فيه لا ما يمثّله خارجه. فالفن لا يُقرأ كما تُقرأ الجريدة أو التقارير؛ بل كما يُقرأ الحلم. كل لوحة تختبرنا، تضعنا أمام مرآة جديدة، وربما تسألنا: من أنت الآن، بعد هذا اللون؟ أي ذِكرى أيقظها هذا الخطّ؟ أيّ صمتٍ داخلك تهشّم الآن؟
لهذا، لا تُعدّ المشاركة في المعارض حدثًا فنيًا فحسب، بل فعلًا وجوديًا. هي لحظة تعرّف جديدة بين الفنان ونفسه، بينه وبين العالم، وبين الآخر ولغته المختلفة. في المعارض الدولية، لا يسافر العمل الفني وحده، بل تسافر الروح التي خلقته، بكل ما تحمله من تراكمات الهوية، ومناخ الذاكرة، وطبيعة البوح في ثقافته.
وما يدهش أكثر… أن هذه المساحات الجمالية، التي نظن أنها تُقام للعرض، تتحول دون أن نشعر إلى مختبرات شفاء. الوقوف أمام عمل فني قديم أو جديد، غامض أو صريح، ليس لحظة استهلاك بصري، بل أحيانًا لحظة مصالحة غير معلنة. هناك لوحات تُشبهك أكثر مما يشبهك صوتك، وهناك ألوان تُعيد ترتيب فوضاك الداخلية، وتظليل جراحك بلونٍ لا يُوجع، بل يرمّم.
العلاج بالفن ليس حكرًا على الورش والجلسات الموجّهة، بل هو يحدث في قلب المعرض أيضًا، حين يتوقف الوقت، وتُصاب الكلمات بالعجز، ويبدأ الجمال في أداء مهمته الخفيّة. يعلّمنا الفن أن الإصغاء أهم من التفسير، وأن السؤال أهم من الإجابة، وأن اللمعة في عين متلقٍّ صامت قد تكون أصدق من ألف تحليل نقدي.
لهذا، لا أنظر إلى اللوحة كعمل معزول ينتظر التقييم، بل ككائن حيّ… يطلب الإصغاء، ويستدعي البصيرة. ربما لا نملك دائمًا القدرة على فكّ رموز اللوحة، لكننا نملك دائمًا حقّ الشعور بها. وهذا وحده… كافٍ.
فالمعرض لا يُقيم فقط علاقة بين فنانٍ وجمهور، بل علاقة بين الإنسان وذاته. وكل وقفة صامتة أمام عملٍ صادق، قد تُحدث فينا ما لم تُحدثه محاضرات، ولا كلمات، ولا سنوات من التجاهل.
وهكذا، قد لا نخرج من المعرض بذات الوعي الذي دخلنا به، حتى وإن لم نُدرك ذلك فورًا. فبعض الأعمال لا تلتصق بالذاكرة كصورة، لكنها تترك أثرًا خفيًا… كأن شيئًا ما تحرّك بداخلنا دون أن نعرف مصدره. وقد تمرّ الأيام، فنجد أنفسنا نستجيب للحياة بطريقة مختلفة، نختار لونًا غير مألوف، نكتب جملة لم نفهم سرّها، أو نتوقّف أمام مشهدٍ بسيط… فنشعر أن هناك شيئًا فينا قد تغيّر بصمت. وربما لم تكن تلك اللوحة التي تذكّرناها، بل التي تذكّرتنا… ومرّت بنا، لترتّب شيئًا في الداخل ثم غابت.
حين يُصبح الفنّ صوتًا لما لا نستطيع قوله، وحين تُصبح اللوحة مرآةً لما لم نجرؤ على النظر إليه… ندرك أن الفن ليس زخرفة حياة، بل هو الحياة حين تُقال بلون.
ربما لا نُغادر المعارض حاملين أسماء اللوحات، ولا نُحصي تفاصيلها كما يُحصي الناقد المدارس والأساليب. لكن الفن الحقيقي لا يطلب منّا أن نتذكّره… بل أن نشعر به. قد لا نحفظ ملامح العمل، لكننا نحمل معنا إحساسًا غير مفسَّر، كأن شيئًا في داخلنا قد لامس الحياة بشكلٍ مختلف، أهدأ… أو أصدق. ولهذا، يظلّ المعرض تجربةً لا تُقاس بما عُرض، بل بما تحرّك فينا. فالفنان حين يبوح، لا ينتظر تصفيقًا… بل ارتجافة صمت، أو لحظة انصات خفية. والمتلقّي الحقيقي، لا يحتاج أن يفهم كل شيء، بل أن يُفسِح داخله مكانًا لما لا يُقال. تلك هي معجزة الفن… أنه لا يشرح نفسه، بل يهمس — ثم يختفي، ليترك في الروح أثرًا… يشبه الضوء حين يمرّ.


