كتب : د. سيما حقيقي
اللون حين يكون ذاكرة حضارة… وصوتًا للروح
بقلم: د. سيما حقيقي
في البدء… لم يكن للإنسان حروف،
لكنّه كان يرى.
وكان اللون أول ما نطقت به الروح.
لم تكن الألوان مجرّد زينة للعالم، بل كانت أول لغة تعلّمناها بلا معلم.
السماء علّمتنا الأزرق، والنار علّمتنا الأحمر، والأرض الخصبة علّمتنا أن السواد لا يعني الظلمة فقط… بل وعد الحياة.
اللون ليس شيئًا نختاره… بل هو غالبًا ما يختارنا.
يدخل إلينا دون استئذان، يوقظ فينا شيئًا لا اسم له،
أحيانًا يُشبه ذكرى لا نعرف متى عشناها،
وأحيانًا… يُشبهنا تمامًا في لحظةٍ لا نفهمها إلا لاحقًا.
حين أسكب الشمع على سطح اللوحة في لوحاتي المرسومة بالشمع، لا أُفكّر باللون.
بل أُصغي إليه. وأتركه يتكلم…
فبعض الألوان لا تُقال، بل تُسكب وتتداخل لتكون لنا انعكاسًا لما ترويه الروح.
وفي الحضارات الأولى، لم يكن اللون مجرّد زينة على الجدران،
بل كان طقسًا مقدسًا، ورمزًا خفيًّا يُستدعى في لحظات الميلاد والموت، الحبّ والخوف، العبور والتطهّر.
في مصر القديمة، لم يكن الأخضر مجرّد ظلٍّ للنبات، بل رمزًا للبعث والخلود. لذلك صوّروا الإله أوزيريس بلون الأرض التي تُولَد من جديد.
أما الأسود، فكان لون الأرض الخصبة، لونًا يدل على الولادة والتجدّد، لا الفقد، كما تروي الباحثة غاي روبنز في كتابها The Art of Ancient Egypt.
وفي الصين، تكلّمت الألوان بلغة العناصر.
كان الأحمر يُقدَّم في الولادات والأعراس، لأنه لون “الحياة الطيبة”، رمز النار والطاقة والبهجة.
بينما الأصفر، كان لون الإمبراطور وحده، لأنه يُمثّل الشمس، والتوازن، ومركز الكون، كما وصفه وولفغانغ إيبيرهارد في قاموس الرموز الصينية.
وعبر حضارة المايا، كان اللون الفيروزي يُرشّ على التماثيل ويُقدَّم كقربان، لأنه يشبه السماء حين تمطر… ويحمل في طيفه معنى الخصوبة والتطهّر والاتصال بالعالم الأعلى، كما روى ميلر وتاوب في كتابهما The Gods and Symbols of Ancient Mexico and the Maya.
وفي الهند، لم تُقرأ الألوان بالعَين، بل من خلال الجسد نفسه.
كل لون كان يسكن “تشاكرا” محددة من سبع مراكز طاقية.
الأصفر في البطن – مركز الثقة.
الأخضر في القلب – مركز التعاطف.
والأزرق النيلي في الحلق – مركز البوح والحقيقة.
كما فسّرت أنوديا جوديث في كتابها Wheels of Life، أن اللون ليس اختيارًا جمالياً بل تعبيرًا عن توازن داخلي.
ثم جاء العلم الحديث، لا لينفي سحر الألوان… بل ليفكّ شفرتها.
في منتصف القرن العشرين، قدّم العالم السويسري ماكس لوشر اختباره النفسي الشهير، والذي يعتمد فقط على اختيار الألوان.
لا كلمات… لا أسئلة…
فقط تطلب من الشخص أن يختار لونًا، ثم تَقرأ ما في داخله من خلال هذا الاختيار.
القلق، الانقباض، التوتر، أو التوازن… كلها كانت تنعكس لا شعوريًا في تفضيل لونٍ على آخر.
في كتابه The Lüscher Color Test، يؤكّد لوشر أن اللون يكشف النفس، أحيانًا أكثر مما يفعل البوح.
وفي سياقٍ آخر، وثّقت الباحثة كارين هامفريز في كتابها The Healing Power of Color التأثيرات الفسيولوجية للألوان، مشيرة إلى أن اللون الأخضر يُبطئ معدل ضربات القلب، والأزرق يُخفف التوتر العصبي، بينما الأحمر يُنشّط الدورة الدموية ويرفع الأدرينالين.
لذلك، لم يكن مستغرَبًا أن تعتمد المستشفيات الحديثة اللون الوردي في غرف الأطفال حديثي الولادة، والأخضر الفاتح في صالات الانتظار، لخلق بيئة أكثر سكينة وطمأنينة.
حتى علم التسويق العصبي (Neuromarketing)، دخل لعبة الألوان، بعد أن أثبتت الأبحاث أن اللون يُوجّه سلوك الإنسان دون وعيه.
الأحمر مثلاً يُحفّز السرعة والانتباه، ويُستخدم في لافتات “العروض المحدودة” لجذب الانفعال السريع.
الأزرق يبني الثقة، ويُستخدم بكثافة في العلامات المصرفية والشركات الكبرى.
الأسود يُوحي بالفخامة والقوة، ويُستخدم في تسويق المنتجات الفاخرة، ليرتبط في عقل المستهلك بـ”السعر الأعلى = الجودة الأعلى”.
كل لون، إذًا، لا يُرى فقط… بل يُشعَر، ويُقرَأ… ويُستَخدم.
فليس الغرض من الألوان أن تُغري أو تُقنع…
بل أن تُطمئن، أن تُعبّر، أن تهمس بما نعجز عن قوله.
لا أراها أدوات تسويق، بل مفاتيح تهمس بما تعذّر على اللغة أن تقوله وما يختلج بدواخلنا.
وجمالها لا يكمن في إثارة الانفعال، بل في إضاءة الزوايا التي غابت عن وعينا طويلًا.
وفي جلسات العلاج بالفن، لا يُطلب من الشخص أن يتكلم.
بل يُطلب منه فقط أن يرسم، أن يسكب شعوره دون تفسير، أن يترك اللون يقوده.
وحين يُحلّل المختص اللون قبل الشكل، يُصبح الرسم مرآةً للنفس أكثر من كونه لوحة للعرض.
لونٌ واحد قد يقول ما لم تقله في عشرات الصفحات.
الأسود قد يكون وجعًا… أو دفئًا.
الأحمر قد يكون غضبًا… أو ولادة.
والأبيض، أحيانًا، ليس سلامًا… بل صمتًا ثقيلًا يُخفي خلفه الكثير.
أما أنا، فلا أختار اللون بعيني.
بل أشعر به.
بعض الألوان تُشبهني أكثر من الضجيج بداخلي، أو تُشبه صمتي حين لا أجد ما أقول.
هناك لحظات يُناديني فيها الأزرق، كأنّه وعدٌ بالهدوء.
وأخرى أبحث عن الأخضر، كأنني أشتاق للاتّزان.
وأحيانًا، يخرج الأحمر وحده، كأنه يكتب نيابةً عن ذاكرتي.
أُصغي للّون حين يتقدّم من تلقاء نفسه،
كأنه يعرف ماذا أحتاج قبل أن أقرّر.
في نهاية كل يوم،
حين أخلع صخب العالم،
أسأل نفسي: ما لوني اليوم؟
هل يشبه ما مرّ بي؟
أم يُحاول أن يقول لي شيئًا لم أستطع نطقه؟
هل هو ظلّ من ذاكرتي؟
أم ضوءٌ من حلمٍ لم يبدأ بعد؟
لأن اللون، في النهاية،
ليس اختيارًا بصريًا…
بل بوّابة داخلية،
وشفرةٌ عاطفية،
ووَشْمٌ قديم نقشَته الحضارات على جدار القلب…
وما زال يتكلّم،
لمن يُحسن الإصغاء.


