كتب : زينب السندي
لقد تحوّل المال السياسي في السنوات الأخيرة إلى قوة نافذة تتحكم بمصير الانتخابات، فبدل أن تكون المنافسة على أساس الكفاءة والنزاهة، أصبحت المنافسة على حجم الحقائب المليئة بالنقود، وأصبح الناخب الفقير، المرهق بظروفه المعيشية، يرى في الانتخابات فرصةً مؤقتة لتخفيف معاناته، لا وسيلةً للتغيير السياسي.
المال السياسي أصبح أداة نفوذٍ خطيرة، تُستخدم لتزييف الإرادة الشعبية، فالكثير من المرشحين لا يدخلون البرلمان بالكفاءة، بل بالقدرة على الإنفاق، وتُدار الحملات الانتخابية كأنها استثمارات مؤقتة، تُصرف فيها الملايين ليُستعاد أضعافها لاحقاً عبر المناصب والمشاريع والعقود وهكذا تتحول السياسة إلى تجارة، والوطن إلى شركة، والمواطن إلى رقمٍ في سجل الأرباح والخسائر.
لم يكن في خيال العراقيين، الذين حلموا يوماً بدولة ديمقراطية تُحترم فيها إرادة الشعب، أن يتحوّل صندوق الاقتراع إلى سوقٍ مفتوح تُباع فيه الأصوات وتُشترى، وأن يصبح الصوت الانتخابي وهو جوهر المواطنة سلعة رخيصة تُقايض بالدنانير أو بوعودٍ واهية.
إنّها مأساة سياسية وأخلاقية، تكشف حجم الخلل العميق الذي أصاب الوعي الجمعي والممارسة الديمقراطية في البلاد .
إنّ هذه الظاهرة لم تولد من فراغ، بل جاءت نتيجة تراكمات طويلة من الإحباط واليأس، فالمواطن الذي شارك في أكثر من دورة انتخابية، ولم يجنِ سوى الخيبات والوعود المكرّرة، فقد ثقته بالسياسيين، وبأن صوته يمكن أن يُحدث فرقاً في واقعه وهكذا، حين تذوب الثقة بين المواطن والدولة، يتحوّل الانتخاب إلى صفقة مؤقتة، والمال يصبح لغة الفعل الوحيدة في ساحة السياسة.
ومن هنا، يمكن فهم كيف أن الفقر والحرمان فتحا الباب أمام شراء الذمم فحين يعيش المواطن على هامش الحياة، بلا وظيفة تضمن كرامته، ولا خدمات تصون إنسانيته، يصبح أكثر عرضةً لأن يمدّ يده لمن يشتري حاجته، حتى لو كان الثمن صوته ومستقبله. فالسياسي الذي يملك المال يستغل الحاجة، والناخب الذي يُحاصر بالجوع يبرر لنفسه البيع بحجة “الضرورة”، لكن النتيجة واحدة: ضياع المعنى الحقيقي للديمقراطية.
وهنا لا يمكن تجاهل دور الوعي الانتخابي المتدني في تغذية هذه الظاهرة فحين يغيب التعليم المدني، وتتراجع الثقافة السياسية، يصبح المواطن فريسة سهلة للدعاية والشعارات الزائفة يتعامل مع الانتخاب كما لو كان “فرصة” للحصول على المال، لا باعتباره مسؤولية وطنية تُحدد شكل المستقبل.
إنّ غياب التربية على قيم المواطنة جعل كثيرين لا يرون في الصوت الانتخابي أمانة، بل فرصة للربح السريع.
نرى اليوم السياسي يفسد بإغراء الناخب وشرائه، والناخب يفسد بقبوله البيع، وكلاهما يشتركان في قتل فكرة الديمقراطية من داخلها فحين يُباع الصوت، تُشترى الدولة، وحين تُشترى الدولة، تُفقد العدالة، ويُغتال الأمل في الإصلاح.
لكن رغم قتامة الصورة، ما زال هناك طريقٌ للخلاص، شريطة أن نبدأ من إصلاح الضمير الانتخابي قبل إصلاح القوانين.
فالقوانين يمكن الالتفاف عليها، أما الضمير فلا يُشترى، علينا أن نعيد للناس إيمانهم بأن التغيير ممكن، وأن المشاركة الواعية هي الطريق الوحيد لبناء دولة لا تُدار بالمال، بل بالقانون.
كما أن من واجب الدولة، ومؤسسات المجتمع المدني، والإعلام الوطني، أن يطلقوا حملات توعية شاملة تُذكّر الناس بأن الصوت ليس سلعة، بل أمانة في عنق كل مواطن، وأن الثمن الحقيقي للصوت المبيع ليس بضعة دنانير، بل مستقبل وطن بأكمله.
إنّ الصوت الانتخابي أمانة في عنق كل مواطن، لا يجوز التلاعب بها أو المقايضة عليها، لأنها تمثل إرادة الشعب ومصدر شرعية مؤسسات الدولة فحين يفرّط المواطن بصوته، فإنه يفرّط بمستقبله ومستقبل وطنه، ويُسهم – من حيث لا يشعر – في تمكين الفاسدين والعاجزين عن خدمة الناس.
التصويت ليس معاملة تجارية، بل موقف وطني نابع من الضمير والمسؤولية. فاختيار المرشح يجب أن يستند إلى الكفاءة والنزاهة والقدرة على تمثيل مصالح المواطنين، لا إلى الإغراءات المادية أو الوعود الزائفة. إنّ من يبيع صوته اليوم، سيجد نفسه غدًا محروماً من أبسط حقوقه التي فرّط فيها بثمنٍ بخس.
ختامًا، يبقى الصوت الانتخابي أمانةً لا يجوز خيانتها، وواجبًا وطنيًا لا يُقدّر بثمن فحين يصوّت المواطن بوعي وصدق، فإنه لا يختار شخصًا فحسب، بل يختار طريقًا لمستقبل وطنٍ يتطلع إلى العدالة والكرامة والازدهار ونسأل الله التوفيق لكل من يسعى لخدمة وطنه وشعبه.تمام، لو عندك مقال معبر عن رأي كاتب والموضوع مش رأي الصحيفة نفسها، وتريدين توضحين أن المسؤولية عن المحتوى تقع على الكاتب وليس الصحيفة، ممكن تكتبي عبارة قانونية أو توضيحية مثل:
تنويه:
المقال يعبر عن رأي الكاتب ولا يخص بالضرورة موقف الصحيفة من تحريرها
عدد المشاهدات: 1


