كتب : يسرا عبدالعظيم
اضطرابات الهلع.. إنذار الموت الذي لا يقتل
في لحظةٍ واحدة، دون مقدمات أو سببٍ واضح، يخفق قلبك بجنون كأنه يوشك أن يخرج من مكانه، يضيق صدرك حتى تشعر أن الهواء لم يعد يجد طريقه إلى رئتيك، ترتعش يداك، تتجمد قدماك، ويصرخ عقلك في داخلك: “أنا هموت دلوقتي!”
ثم تهدأ العاصفة بعد دقائق، لكنك تبقى أسير الخوف — لا تفهم ما حدث، وتعيش في رعب دائم من أن يتكرر.
هذه ليست نوبة جنون، ولا ضعفًا، ولا مجرد “وهم نفسي”.
إنها نوبة هلع (Panic Attack) — واحدة من أعنف وأشد التجارب النفسية التي قد يمر بها الإنسان، حيث يهاجمك الخوف كعاصفة، ويقنعك جسدك أنك على وشك الموت بينما لا خطر حقيقيًّا يهددك.
ما الذي يحدث داخل جسدك؟
يمتلك الإنسان منذ آلاف السنين جهاز إنذار بدائيًّا يُعرف بـ الجهاز العصبي الودي (السمبثاوي)، وهو المسؤول عن تهيئة الجسم لمواجهة الخطر من خلال ما يسمى بردة فعل القتال أو الهروب (Fight or Flight).
لكن هذا الجهاز لا يفرّق بين الأسد الحقيقي والتهديد المتخيل. عندما يتعرض العقل لتفكير أو خوف داخلي، ينطلق الإنذار نفسه — فيفرز الجسم الأدرينالين والكورتيزول، فتتسارع ضربات القلب، ويتسارع التنفس، وتتوتر العضلات، فيبدو وكأنك تواجه موتًا وشيكًا.
لماذا تحدث نوبات الهلع؟
ليست هناك أسباب واحدة، بل خليط من العوامل:
الاستعداد الوراثي والعصبي: حساسية مفرطة في مركز الخوف بالمخ (Amygdala).
الصدمات النفسية: مثل فقدان شخص عزيز أو المرور بتجارب قاسية.
القلق المزمن المكبوت: التوتر المتراكم دون تفريغ أو مواجهة.
نمط الحياة: قلة النوم، الإفراط في الكافيين، التدخين والمخدرات.
الخوف من الخوف نفسه: وهو العامل الأخطر، لأن ترقب النوبة قد يستدعيها فعلًا.
القصة التي تختصر المعاناة
رجل ناجح في الأربعينات تواصل مع الأخصائي النفسي بعد أن عاش ستة أشهر من الرعب.
قال: “أنا بقيت خايف أطلع من البيت أو أسوق العربية، كل مرة بحس إن الموت جايلي.”
كان الإحساس الأصعب لديه هو فقدان السيطرة.
ومع العلاج المعرفي السلوكي (CBT) وتعلّم تقنيات التنفس، أدرك أن ما يحدث له ليس خطرًا حقيقيًّا بل استجابة خاطئة من جسده.
قال بعد التعافي: “مش أنا الضعيف، أنا بس كنت بحارب عدو وهمي بسلاح غلط.”
أنواع نوبات الهلع
النوبة الكاملة: تشمل كل الأعراض دفعة واحدة (خفقان، ضيق تنفس، دوخة، رعب من الموت).
النوبة المحدودة: أعراض أقل حدة.
الليلية: توقظ المريض من نومه فجأة.
القلق التوقعي: خوف دائم من عودة النوبة.
كيف تفرّق بين نوبة الهلع والمشكلة الجسدية؟
نوبة الهلع تظهر فجأة وتصل ذروتها في دقائق وتختفي تلقائيًا، والفحوصات الطبية عادة تكون سليمة.
أما الأزمات القلبية أو العضوية، فترتبط بالمجهود وتستمر دون تحسن.
لذلك، من المهم استبعاد الأسباب الجسدية أولًا ثم التعامل مع السبب النفسي بثقة ووعي.
العلاج ممكن
العلاج المعرفي السلوكي (CBT):
تعليم المريض كيف يفكر بهدوء أثناء النوبة، ويفصل بين الخطر الحقيقي والوهمي.
تمارين التنفس:
استعادة التوازن عبر شهيق عميق من الأنف (4 ثوانٍ)، حبس (4 ثوانٍ)، زفير بطيء من الفم (6 ثوانٍ).
الأدوية:
تستخدم بحذر وتحت إشراف الطبيب ، وتُعد دعمًا مؤقتًا لا علاجًا دائمًا.
تعديل نمط الحياة:
تقليل الكافيين، النوم الجيد، النشاط البدني، والابتعاد عن المنبهات.
الوعي بالجسم وتقنيات الـGrounding:
التركيز على الحواس الخمس لإعادة العقل إلى الواقع أثناء النوبة.
فى النهاية
نوبات الهلع لا تقتل، لكنها تسجن صاحبها في خوف دائم.
والتعافي لا يعني اختفاء النوبات تمامًا، بل أن تتعلم كيف تواجهها دون أن تسيطر على حياتك.
أنت لست ضعيفًا ولا مجنونًا — أنت فقط تملك جهاز إنذار حساسًا يحتاج إلى إعادة ضبط.
اطلب المساعدة، تحدّ الخوف، وتذكّر دائمًا:
نوبة الهلع ليست نهاية العالم، بل اختبار قوة ستخرج منه أقوى مما كنت.


