*ضوء*
الدكتورة أنيسة فخرو
ميكافيلي
كلما تذكرت الزعيم (جمال عبد الناصر) الذي تفتقده الأمة العربية جمعاء، أتذكر (ميكافيلي)، ربما لأن ما كتبه (ميكافيلي) يرسم شخصية مناقضة لـ (عبد الناصر)، وعلى الرغم من أنَّني من مؤيدي الدولة المدنية لا الدينية ولا العسكرية، لكن لم تكن ثورة 23 يوليو انقلابًا عسكريًّا، بل كانت ثورة شعبية عارمة، وبفضل (عبد الناصر) ورؤاه، استطاعت الثورة أن تحقق على أرض الواقع جزء من حلم العدالة الاجتماعية بشكل نسبي.
وقد وصلتني رسالة مجهولة المصدر، محتواها نصائح للطاغية تقول: أنكر الإخفاقات وتحدث فقط عن الإنجازات، كرر دومًا أن الجميع يتآمر ضدك، وأنَّك لست مسئولًا عن الإخفاقات، أطلق الألقاب والتعميمات، لا تقدم تنازلات، أزرع الخوف بدلاً من الحب، استعن بأجهزة الرعب، سيطر على الإعلام كليًا، تحدث كثيرًا عن التهديدات الخارجية، أكذب ولا تتحرج من الكذب، وإذا انكشف كذبك فأكذب مجددًا، أمّن نفسك بأتباع في الداخل وحلفاء من الخارج.
وهذه النصائح المقدمة للطاغية جاءت على لسان (ميكافيلي) قبل أكثر من 500 عام.
ولد (ميكافيلي) في 1469 من عائلة أرستقراطية، وتوفى في 1527، وأصدر كتابه (الأمير) في القرن الخامس عشر، وفيه ينصح الطاغية قائلًا: “السياسي الجيد يجب أن يكون مخادعًا، على الحاكم أن يكون ثعلبًا من الطراز الأول، وأن يتناسى الأمور الأخلاقية تماماً “.
ويوجه كلامه مباشرة للطاغية قائلا: “أظهر أمام الناس أنك أخلاقي وملاك لكنك مضطرٌّ أن تكون شيطانًا، يجب أن تجعل حياة الناس مرتبطة بك، أنت الدولة، ونهايتك تعني القضاء على الدولة والناس في الوقت نفسه، لا بد من استخدام الدين في السياسة، وعليك المتاجرة بالدين، كل فترة لا بد وأن تُفجّر قضية لأنك بحاجة إلى إنجاز تظهره للناس، حاول أن تبني مشروعًا حتى لو كان وهمياً، سيطر على عقول الناس لكي تشغلهم بمشروعك، إحم سمعتك وأهدم سمعة عدوك، عيّن شخصًا يكون مسئولًا عن فرض الضرائب على الناس، وبعد فترة تخلص منه لكي يحبك الناس، أي إنجاز يحسب لك وأي فشل يقع اللوم على غيرك، الغاية دائمًا تبرر الوسيلة، كل شيء مباح ولا يوجد شيء محرّم في قاموسك، حاول أن تحافظ دائمًا على المظهر الخارجي بشكل سليم وأخلاقي، اعتمد على الخوف لكي تجبر الناس على الالتزام، من الجميل أن تكون مهيبًا ومُطاعًا ومحبوبًا في آن واحد، لكن عليك تغليب الهيبة على الحب. أبطش، ويجب أن تكون يد البطش قاسية وسريعة، سواء في العلن أو في الخفاء؛ لفرض السلطة التي تريد، عليك ترويض الحظ السيئ وجعله لصالحك، ودائما توقع المخاطر حتى في وقت السلم، وخذ الاحتياطات لها “.
هذه الشخصية التي رسمها (ميكافيلي) تمامًا على عكس أفكار وأفعال (عبد الناصر)، حيث كان صادقًا قولًا وفعلًا؛ ولذلك وصل إلى قلوب الملايين.
ولد (ميكافيلي) في فلورنسا بإيطاليا، وتوفى فيها، وكان مفكرًا وفيلسوفًا وسياسيًا، ويعتبر مؤسس الفكر السياسي الواقعي.
نشر كتابه (الأمير) بعد موته، وقد تعرض للظلم ولاقى في حياته العديد من الصعاب؛ حيث ذاق السجن عام 1512، وكان والده وجده من المعارضين لحكم عائلة (الميدتشي) ؛ لأنها كانت مستبدة، وبعد استعادة العائلة الحكم تم اتهامه بالتآمر ضدها، وكان آنذاك يشغل منصب سكرتير المستشارية الثانية لجمهورية فلورنسا في الحكومة منذ 1494، التي كانت مسئولة عن الشئون العسكرية والخارجية، وبعد الإفراج عنه اختار العزلة في الريف، وهناك كتب (الأمير)، وعندما دخل الجيش الفرنسي إلى فلورنسا اضطر شعبها إلى دعوة عائلة (ميديشي) للحكم؛ فتعرض (ميكافيللي) للنفي إلى سان كاساينو.
عاش (ميكافيلي) في عهد (لورينزو ميدتشي) الذي كان عهده عصرًا ذهبيًا للنهضة في إيطاليا، وكان (لورينزو) أديباً؛ فاهتمَّ بالأدباء والفنانين والعلماء، لكنه توفي في 1492 وخلفه (بييرو) الذي حكم سنتين فقط، ونتيجة لتعرض البلاد لغزو ملك فرنسا (شارل الثامن)، اصطف الشعب مع عائلة (ميدتشي)، وكان الصراع بين الدولة الدينية والمدنية محتدماً وجارفًا، وبين مؤيدي الجمهورية والملكية، ولسخرية القدر أصبح (ميكافيللي) يقف مع عائلة (ميدتشي) على عكس والده وجده، وكتب كتابه (الأمير) إهداء إلى حفيد (لورينزو).
وحتماً قرأ (عبد الناصر) كتابه، وحتما استفاد (ميكافيلي) من (ابن المقفع) و (ابن خلدون)؛ لذا فإن كتابه ثمرة تراكم جهود فكرية متواصلة، وحتماً استفاد كل طاغية من كتابه، وطبق إرشاداته على أكمل وجه.
عدد المشاهدات: 1