الجواسيس الرحّالة
بقلم – الدكتورة أنيسة فخرو
اجتذب وادي العرب المئات من المستكشفين الأوروبيين، الذين تدفعهم أسباب سياسية وعلمية وأثرية وغيرها، منذ القرن الخامس عشر، وقسّم أصحاب القرار في الغرب المنطقة إلى ثلاثة أقسام، من أجل الاستكشاف وتخصيص الدعم المالي.
القسم الأول: بلاد الشام، والقسم الثاني: مصر والسودان، والقسم الثالث: الجزيرة العربية، وتشمل نجد والحجاز والأحساء والمخا والنفود وخيبر وحائل وعسير ونجران وعمان واليمن.
وأغلب المستكشفين الغرب كانت رحلاتهم إلى وادي النيل والشام تسبق رحلتهم إلى الجزيرة العربية.
كما كان أغلبهم يقرأون كثيرًا عن تاريخ المنطقة مسبقاً ويتعلمون اللغة العربية ويتعمقون في دارسة الدين الإسلامي، ويطلقون على أنفسهم أسماء عربية، بل ويلبسون الزي العربي، والبعض منهم يعتنق الإسلام ظاهرياً، وكان الهدف العلني لرحلاتهم شيء والهدف السري شيء آخر، وقاموا بدراسة الشرق ومجتمعاته بدقه متناهية، وسجلوا مواطن ضعفه وقوته، ومن أشهر الرحالة الجواسيس: يوهان وايلد، جوزيف بتس، لورنس العرب، وغيرهم الكثير من الأسماء، وسأورد فقط ثلاثة منهم.
الأول: ريتشارد بيرتون، (١٨٢١-١٨٩٠) الإنجليزي الأيرلندي الأصل، بأمر من المؤسسة الملكية البريطانية وصل إلى الشرق، وهو يتقن العربية والفارسية، وترجم (ألف ليلة وليلة)، وعبر الجزيرة العربية من المدينة المنورة إلى سلطنة عمان، وقد تنكر في زي أمير فارسي، وسمى نفسه الشيخ عبدالله، وتعمق في دراسة العربية والإسلام، وأدّعى أنه أفغاني، وجاء بصفته حاج، ثم ألّف كتاباً عن رحلته إلى مكة والمدينة، ذكر بالتفصيل فيه عن عادات وتقاليد العرب وملابسهم وأسلحتهم ومأكلهم ومشربهم ومسكنهم والوضع السياسي والديني والطب والفن الشعبي.
الجاسوس الثاني:
وليام كفورد بلغريف، (1826-1888)، عالم لغوي إنجليزي ومبشر، ويعدّ من أشهر الرحالة الذين زاروا الجزيرة العربية، ولد بإنجلترا.
ومن فرنسا رحل بلغريف نحو مناطق شمال الجزيرة العربية في بعثة تبشيرية مدعومة من الأمبراطور الفرنسي نابليون الثالث، الذي أقنعه بلغريف بأن المعرفة الجيدة بأحوال الجزيرة العربية ستفيد الأطماع الإمبريالية لفرنسا في أفريقيا والشرق الأوسط، وبدأ رحلته عن طريق القاهرة ثم بيروت ثم الجزيرة العربية، متنكراً فيها بشخصية طبيب سوري باسم أبو سليم محمود عيسى يرافقه مساعد يوناني، وأدّعى أنه لبناني واسمه بركات، وزار فيها معان والجوف وحائل وبريدة والرياض والهفوف والقطيف والبحرين وقطر وعمان، في رحلة استغرقت حوالي عام. وقد ألّف كتاباً ذكر فيه بالتفصيل عن الشعر الدارج في الجزيرة والأزياء والطب والعمارة التقليدية والأسواق الشعبية.
الجاسوس الثالث:
ولد كريستيان هوخرونيه في هولندا في عام 1857 وتوفى في 1936، وبدأ دراسة اللاهوت في جامعة لايدن في عام 1874، ثم تخصص بقسم اللغات السامية وحصل على الدكتوراه في عام 1880، وكان عنوان أُطروحته: الاحتفالات أوالمراسم المكية، ويُقصد بها ما كان يُقام في مكة آنذاك من احتفالات ومراسم.
ثم أصبح أستاذًا ومحاضرًا في جامعة لايدن في عام 1881، وكان يتقن اللغة العربية واللغة الآتشيه.
في عام 1888 أصبح عضواً في الأكاديمية الملكية الهولندية للفنون والعلوم، ثم أصبح في عام 1889 أستاذًا في اللغات الملايوبولينيزية (التي تضم عدة لغات مثل الإندونيسية والماليزية والآتشية) ومستشارًا للحكومة الهولندية في شؤون السكان الأصليين. وفي عام 1891 انتقل إلى العمل في إندونيسيا لخدمة الاستعمار الهولندي حيث عمل مستشاراً لإدارة المستعمرات.
قدم دراسة تفصيلة عن الأوضاع الاجتماعية والسياسية في الجزيرة العربية، وخاصة في المجتمع المكي، وساهم بفعالية في قمع الشعب الإندونيسي، لأن كان هدف زيارته أصلاً إلى مكة معرفة سبب مساهمة الدين الإسلامي في ثورة الشعب الأندونيسي ضد الاستعمار الهولندي.
أذكر هذه النماذج لكي أوّضح مجموعة من الأمور لا تخفى على المتمعن.
أولها: إننا نحن العرب عاطفيون نصدق ونثق بسرعة في الغرباء، وندخلهم بيوتنا ونؤمنهم على أحوالنا وأسرارنا وخيراتنا. وإننا لا نعرف النظام ولا التنظيم، ولا التخطيط، ولا الوحدة، ولا حتى التجسس عليهم، ولا نعمل لمصلحة أنفسنا، وربما لا نتقن سوى الكلام، وكل ما نعرفه إننا نعيش على البركة.
ثانيًا: إن ساسة الغرب درسوا ويدرسون المجتمعات التي يريدون استغلالها بعمق ودقة. ونحن لا ولم ندرس أي مجتمع من المجتمعات التي تنهب خيراتنا وثرواتنا وتسرق أرضنا وتقتل شعبنا علناً وسراً.
ثالثًا: ونتيجة دراساتهم المتعمقة للوضع السياسي والاجتماعي والاقتصادي وحتى النفسي، للأنظمة العربية والشعوب، يستطيعون بسهولة تحديد نقاط الضعف والقوة لدينا، وإثارة كافة النعرات القبلية والدينية والطائفية والمذهبية. باختلاق الأحداث الموائمة لها، من أجل الاستمرار في إضعافنا واستغلال ثرواتنا.
وبما أن الغرب تأكد من فعالية وفائدة هذا الأسلوب التجسسي لصالحهم، لذلك مازالت أجهزة المخابرات الأجنبية، وخاصة ( الموساد والسي اي ايه) تعمل ليل نهار وبكل الوسائل البشرية والتكنولوجية، لمعرفة كل صغيرة وكبيرة في مجتمعاتنا العربية، ولم يُقصّر (جوليان أسانج) في فضحها علناً، لكن في أنظمتنا العربية من يهتم ويكترث ومن يرى ويسمع ؟
عدد المشاهدات: 132