طارق تميم… الممثل الذي لا يُمثّل وصوت المسرح الذي لا يخفت
بقلم الكاتبة اللبنانية-مايا ابراهيم
في مشهد فني يعجّ بالتكرار والاستسهال، يلمع اسم طارق تميم كواحد من أولئك القلائل الذين اختاروا طريقًا لا يشبه سواه: طريق الصدق، العمق، والجرأة الفكرية. هو ليس ممثلاً عابرًا فوق الخشبة أو أمام الكاميرا، بل هو حالة فنية متفرّدة، تسكنها روح متأملة وموقف لا يهادن.
نشأ في بيروت، المدينة التي تشبهه كثيرًا: مثقفة، صاخبة، لا تهدأ. درس المسرح عن شغف، ولم يتأخر في تحقيق حلمه بالوقوف إلى جانب العملاق زياد الرحباني، في أعمال مسرحية تركت بصمتها في ذاكرة جيل بأكمله، مثل “بخصوص الكرامة والشعب العنيد” و”لولا فسحة الأمل”. هناك، على خشبة المسرح، وُلد تميم الحقيقي: الممثل المتقن، والمواطن المُتفكّر، والإنسان الذي يُجيد قول ما لا يُقال.
في زمنٍ بات فيه الأداء استعراضًا، والحضور مجرّد صدى، يجيء طارق تميم كموقف لا كشخص، كفعل لا كأثر، كصوت يخرج من الحنجرة إلى الضمير دون وسيط. لا تراه يُمثّل… بل يعيش. لا يتحرّك على الخشبة أو أمام الكاميرا، بل يتوغّل فيك، يُقنعك أن ما تراه ليس فنًا، بل حقيقة خالصة تُوجِع وتُضحك وتُربك.
لم تكن تجربة طارق تميم في المسرح محطة عابرة، بل قاعدة انطلقت منها رحلته نحو التلفزيون والسينما، حيث اختار أدوارًا غير نمطية، أدوارًا فيها من “النقطة على الحرف” أكثر مما فيها من الزينة والبهرجة. في مسلسل “النار بالنار”، عاد بعد غياب سبع سنوات، ليجسّد شخصية درامية كثيفة ومركبة، أداها بوعي الممثل الحرفي، وصدق الفنان الذي لا يساوم. لم يحتج إلى ضجيج الترويج، فحضوره كان كافيًا لإشعال الحكاية. هو ممثل لا يقول الدور، بل يُعيد كتابته بجسده، ونبرته، وذاكرته الشخصية.
لكن السينما كانت الحاضن الحقيقي لموهبته، وأعطته فضاءً أرحب ليكون هو كما هو. أدواره الرئيسية في أفلام رائدة تؤكّد ذلك:
• في فيلم “طيف المدينة” للمخرج الراحل جان شمعون، قدّم تميم أداءً مؤثرًا نابعًا من التماس الحميم مع ذاكرة الحرب، فجسّد شخصية تنتمي إلى وجدان بيروت بكل تناقضاته، وترك بصمة لا تُنسى.
• في فيلم “Nuts” للمخرج الفرنسي هنري بارجيس، تماهى مع دور معقّد بلغة غير لغته، مؤكدًا أن التمثيل الحقيقي لا تحدّه الجغرافيا.
• أما في “Taxi Service” للمخرج إيلي خليفة، فقدّم دورًا نال عنه جائزة دولية، حيث كان الفيلم نافذة مشرّعة على التهميش، وعزف تميم فيه أداءً داخليًا بليغًا، جعله من أبرز إنجازاته السينمائية.
وفي الوقت ذاته، لم يتخلّ طارق تميم عن مشاركته في أعمال سينمائية أخرى شكّلت دعائم في مشواره، مثل Taxi Ballad وArzé، إضافة إلى مشاركته الضيفة في Paparazzi، حيث استمر في ترسيخ حضوره الفني الرصين. لم يكن مجرد اسم على الشاشة، بل ظلًّا يمتدّ من المشهد إلى المتفرّج، بشخصيات متقنة تحترم عقل الجمهور.
أما في المسرح، فعاد مؤخرًا في مسرحية “تحت رعاية ذكور”، مؤكدًا أنه ابن الخشبة الحقيقي، الذي يتنفس النص ويمنحه طاقة مضاعفة. بأدائه السلس والساخر، حمل العرض على كتفيه وأثبت أن للمسرح رجالًا يعرفون كيف يوقظون الوعي ويحرّكون الضحكة في آنٍ معًا. لم يكن يؤدي دوره، بل يُعرّي مجتمعًا، ويضحكنا لنفهم أكثر كم نحن في حاجة إلى الوقوف على خشبة نواجه بها أنفسنا.
في مقابلاته، لا يتكلم عن النجومية، بل عن القيم، عن الإتقان، عن المعايير التي يجب أن تظل ثابتة في وجه الرداءة. لا يخفي خيبة أمله أحيانًا من واقع الإنتاج الفني، لكنه في المقابل، يؤمن أن الشغف والانتماء إلى المهنة هما ما يحفظ الفنان من التنازل والتكرار. بالنسبة له، التمثيل ليس مهنة فحسب، بل التزام وجداني وثقافي تجاه الجمهور.
طارق تميم ليس نجم موسم، بل نجم موقف. نجم يضيء كلما خفتت الأصوات الحقيقية، ويصمت حين يصبح الضجيج هو القانون. هو ذاكرة حيّة لجمالٍ صار نادرًا، وحقيقةٍ لا تتجمّل. لا يُشبه أحدًا، ولا يريد. لأن من يشبه نفسه، لا يحتاج إلى أن يُقلّد أحدًا.
الإعلامية مايا إبراهيم
عدد المشاهدات: 5