روبير فرنجية… صوت الأصالة في الإعلام اللبناني
بقلم الكاتبة اللبنانية-مايا ابراهيم
في مشهد إعلامي يموج بالتقلبات والصخب، يظل روبير فرنجية علامة فارقة وصوتًا ثابت النبرة، يكتب حضوره بالكلمة الرصينة، بالصوت المألوف في صباحات الشمال، وبالوجه الذي حفظه جمهور الشاشة في محطات متنوعة. هو ليس فقط إعلاميًا لبنانيًا مخضرمًا، بل راوية لذاكرة فنية وثقافية وإنسانية تمتد من زغرتا إلى بيروت، ومن الورق إلى المايكروفون والكاميرا.
من زغرتا إلى لبنان كلّه
في منطقة زغرتا، حيث الجذور والعصب، أسس روبير فرنجية مشروعه الإعلامي المحلّي، فكان المدير العام لراديو “إهدن”، يطلّ كل صباح من خلال برنامج “هوا إهدن هوا الشمال”، ليعكس هموم الناس، نبض البلدات، والدفء الإنساني الذي لا تلتقطه نشرات الأخبار. لم تكن هذه الإطلالة مجرد صوت في الراديو، بل مساحة تفاعل حيّ مع الناس، رسّخت حضوره في الوجدان الشمالي واللبناني.
الصحافة المكتوبة: المدرسة الأولى
في الصحافة، وخصوصًا تحت سقف دار الصياد، تمرّس فرنجية على قواعد الكتابة المحترفة، فتنقّل بين صفحات “الصياد”، و”الأنوار”، و”ألوان”، و”الشبكة”، كاتبًا ومنقّبًا عن المعنى، راسمًا الشخصيات بماء المهنة وشغف المتابعة. أكثر من 25 عامًا في بلاط صاحبة الجلالة علّمته أن الكلمة الحقيقية لا تذوب، بل تبقى، مهما تغيّرت الوسائط.
الإذاعة: حيث للصوت أثر
عبر “صوت الغد” و”إذاعة لبنان الحر الموحّد”، قدّم برامج إذاعية تركت بصمة خاصة، مثل: “مبارح بكرا”، و**“شي غريب”، و“ضيف الضيف”، و“شو اسمك”**. لم يكن أسلوبه تقليديًا، بل قائمًا على الحفر في ذاكرة الضيوف، في وجدان المستمع، وفي تفاصيل تبدو عادية لكنها تكشف جوهر الأشخاص. الصوت عند روبير فرنجية ليس وسيلة بل شخصية، يسرد، يصغي، ثم يصيغ المشهد من جديد.
التلفزيون: حضور متعدد الأبعاد
في التلفزيون، عرفه الجمهور معدًا ومقدّمًا على شاشات مثل OTV وتلفزيون طرابلس، حيث راوح بين التقديم والحوار والتحقيق، فامتلك أدوات السرد البصري. كما أطلّ كممثل ضيف في أعمال درامية لبنانية مثل: “عندما يبكي التراب” و**“رصيف الغرباء”**، مثبتًا أن الإعلامي يمكن أن يعبر إلى الدراما دون أن يفقد هويته.
“ألبوم الأصالة”: حين عاد أرشيف تلفزيون لبنان إلى الضوء
من أبرز بصمات روبير فرنجية التلفزيونية برنامج “ألبوم الأصالة” الذي انطلق من شاشة تلفزيون لبنان. لم يكن البرنامج مجرد عرض لذكريات، بل مشروعًا توثيقيًا حيًا استند إلى كنز أرشيف تلفزيون لبنان، الذي ظلّ لسنوات طويلة مهملًا ومهمّشًا.
بذكاء المحبّ وجهد المؤرّخ، راح فرنجية يستخرج من هذا الأرشيف مقاطع نادرة ومشاهد طواها النسيان، ليعيد تقديمها بروح معاصرة تراعي ذائقة الجمهور من دون أن تمسّ أصالة المادة. ومع عرض أولى حلقاته، أعاد البرنامج وهج القناة الرسمية، وأحدث صدىً واسعًا جعل الكثيرين يلتفتون إلى هذا الأرشيف ويستوحون من فكرته.
لقد شكّل نجاح “ألبوم الأصالة” محفّزًا للعديد من البرامج المماثلة التي سعت إلى تقليده أو السير على نهجه، حتى بات تلفزيون لبنان الذي كان منسيًا مقصِدًا ومطمعًا لعدد من الإعلاميين الذين أرادوا أن يكرروا تجربة فرنجية أو يلامسوا نجاحه. غير أن الفارق ظلّ واضحًا: فـ”ألبوم الأصالة” لم يكن مجرد برنامج، بل رسالة وفاء للذاكرة، واحتفاء حقيقي بالإرث الفني والثقافي اللبناني.
الكتب والتوثيق: من الصوت إلى الورق
لم يكتفِ فرنجية بالشفوي والمسموع، بل ترجم هواجسه وشهاداته إلى كتب، نذكر منها:
“زرعني بأرض لبنان”
“غابت الشمس”
“شو اسمك”
وفيها يروي سِيَرًا، يلتقط لحظات مفصلية، ويؤرّخ لزمن يتسرّب من بين أصابع الذاكرة العامة. كما أعدّ وثائقيات عن شخصيات لبنانية بارزة، أعاد من خلالها الاعتبار لرموز غابت أو غُيّبت، وفتح للجيل الجديد نوافذ على زمنات ناصعة.
رجل العائلة
بعيدًا عن الميكروفونات والكاميرات، يعيش روبير فرنجية حياة هادئة، متزوجًا منذ عام 1999 من المربية نهى الدويهي، ولهما ثلاثة أبناء: إميليو، غدي، وجنى. ربما من هنا تحديدًا استقى نبرته الإنسانية الواضحة في برامجه: من بيته، من دفء العائلة، من دور الأب والزوج، لا من نص مكتوب أو أداء مفتعل .
في الختام
روبير فرنجية ليس مجرد إعلامي، بل حافظٌ لذاكرة وطن، ومُحبّ صادق للفن والناس والحقيقة. بين الكلمة والصوت والصورة، نسج مسيرة متفردة تشبهه: رزينة، أصيلة، وصادقة. في زمن السرعة والنسيان، هو واحد من القلائل الذين ما زالوا يكتبون بحبر الوفاء، ويتكلمون بلغة القلب .
الإعلامية مايا إبراهيم
عدد المشاهدات: 4