جلجامش: حين بكى الملك أمام الموت
قراءة تأملية وتحليلية في أقدم صرخة إنسانية ضد الفناء
د. ميرنا القاضي
في قلب الأدب الرافديني القديم، وعلى ألواحٍ من طين، لا تزال تنبض ملحمة “جلجامش” بصوت الإنسان الأول وهو يصطدم بحتمية موته. إنها ليست مجرد سرد لبطولات ملك أسطوري، بل وثيقة وجودية نادرة، تحمل أول صرخة واعية ضد الفناء، وأول محاولة لفهم معنى الحياة من خلال مواجهة موت الآخر.
لقد اختار السومريون أن يكون بكاء ملكهم نقطة انطلاق أدبهم الخالد، فصار الدمع في هذه الملحمة أبلغ من السيف، وصار السؤال الوجودي أهم من المجد السياسي. في هذا السياق، تقدم هذه الدراسة قراءة تأملية وتحليلية لمفاصل الملحمة، مستنيرة بمقاربات فلسفية ونفسية ونصوص موازية من الأدب القديم.
أولاً: جلجامش وإنكيدو: ولادة الوعي من خلال الآخر
حين اشتد ظلم جلجامش على أهل أوروك، لم تعاقبه الآلهة بقوة مدمرة، بل أرسلت له “مرآته”. إنكيدو لم يكن مجرد رفيق، بل إسقاطًا رمزيًا لظل جلجامش الداخلي؛ المجهول الذي لم يكتشفه بعد.
وفقًا لمدرسة كارل يونغ في علم النفس التحليلي، يمثل “الظل” الجانب المكبوت في النفس البشرية. ويمكن القول إن إنكيدو يمثل هذا الظل الطبيعي، غير المتمدن، الصادق، الذي يصطدم أولاً بالـ”أنا” (جلجامش) لكنه سرعان ما يندمج معه ليشكل شخصية ناضجة متكاملة. هذا التكامل يمثل ميلاد الوعي الكامل، الذي لا يتحقق إلا عبر علاقة إنسانية صادقة.
ثانيًا: موت إنكيدو وبداية أزمة المعنى
وفاة إنكيدو لا تمثل فقدان صديق فحسب، بل انهيار النصف المكمل للذات. كان جلجامش حتى تلك اللحظة يرى نفسه خالدًا بقوة نسبه الإلهي، لكن رؤية جسد إنكيدو في انحلاله أدخلته في نوبة من الوعي بالزوال.
في النص الأكادي، يصرخ جلجامش:
> “هل هذا هو قدري؟ أنا أيضًا سأموت؟”
هذه الصرخة هي اللحظة التي يتحول فيها الملك إلى إنسان. إن ما تسجله الملحمة هنا ليس مجرد حزن، بل بداية ما يسميه فيكتور فرانكل بـ”القلق الوجودي”، أي ذلك الفراغ الداخلي الناتج عن غياب المعنى في مواجهة الموت.
ثالثًا: رحلة البحث عن الخلود: من الجغرافيا إلى الذات
تبدأ رحلة جلجامش من أوروك مرورًا بجبل ماشو إلى جزيرة أوتنابشتم. في ظاهرها، هي رحلة فيزيائية بحثًا عن سر الحياة الأبدية، لكن في جوهرها، هي رحلة نفسية عميقة نحو الذات.
يحاور جلجامش “سيدوري”، صاحبة الحانة، التي تمثل الحكمة الأنثوية الكونية. تقول له:
“دعك من الخلود، كل ما لك هو أن تأكل، تشرب، تحب، وتفرح.”
لكن جلجامش لا يقتنع، ويكمل الطريق إلى أوتنابشتم، الذي يروي له قصة الطوفان، في توازٍ واضح مع سردية نوح التوراتية. ومع ذلك، يُعطى جلجامش “نبتة الخلود” ويفقدها بسرعة، في مشهد رمزي يدل على هشاشة التملك البشري لأي “خلود” دون وعي ،كأنها تقول:
“ما لا تفهمه، لا تستحقه.”
رابعًا: العودة إلى أوروك… الحكمة بدلًا من الخلود
عند عودته، لا يحمل جلجامش شيئًا من رحلته سوى الإدراك. لا إنكيدو، لا النبتة، لا الحياة الأبدية… فقط قصة.
وهنا ذروة الملحمة: يتحول جلجامش من ملكٍ محارب إلى كاتب نقش، من باحث عن الخلود البيولوجي إلى حامل لخلود رمزي يتمثل في الكلمة، والبناء، والذكر.
وهكذا تنتصر الملحمة للفعل الإنساني البسيط: أن تكتب، أن تحب، أن تبني، حتى وإن كنت فانيًا. يقول النص في ختامه:
“انظروا إلى أسوار أوروك، انظروا إلى ما كتبه جلجامش…”
خامسًا: دلالات معاصرة: جلجامش في زمن الخلود الرقمي
في عصر الذكاء الاصطناعي، وتوثيق اللحظة، وهوس البقاء الافتراضي، تعود إلينا “ملحمة جلجامش” كجرسٍ داخلي يسألنا:
هل الخلود ممكن؟ وإن كان، فهل هو حقًا ما نريد؟
تدعونا هذه الملحمة لأن نبحث عن “إنكيدو” في حياتنا، لا لنتمسك به فقط، بل لندرك أننا نكتمل بالآخر، ونسقط بغيابه، ونولد من جديد حين نواجه وحدتنا دون أقنعة.
إن أقدم ملحمة أدبية عرفتها البشرية، لا تزال حتى اليوم تقدم إجابة بسيطة وملهمة:
الخلود ليس في الجسد، بل في الأثر.
والموت ليس نهاية، بل بداية وعي جديد.
عدد المشاهدات: 2