يوم النصر: نسيج من الذاكرة والنور
د ميرنا القاضي
في التاسع من مايو، تتنفس روسيا ذكرىً تلمسُ السماوات. يومٌ يذوب فيه الزمن بين دموع الفرح والألم، بين هتافات الحياة وصمت الأموات. إنه يوم النصر، ليس مجرد احتفال بانتصار عسكري، بل حكاية إنسان انتصر على الظلام، وحكاية شعبٍ نسج من دمائه فجرًا جديدًا.
في الصباح الباكر…
يبدأ اليوم بوشاحٍ من الصمت. يقف قدامى المحاربين بزيهم العسكري المزيّن بالنياشين، تتمايل أيديهم المرتعشة على صدورهم وكأنهم يلمسون قلوبًا توقفت عن الخفقان منذ عقود. تُطلَق طلقة مدفع، فتنكسر حدة الصمت، وتبدأ الموسيقى: لحن “قدّاس الموتى” لشوستاكوفيتش يملأ الساحة الحمراء، فيذكّر العالم بأن النصر لم يكن سوى الوجه الآخر للمأساة.
الزمن يعود إلى الوراء…
في عام 1945، سُمعت صرخة “بولوشينا!” (استسلموا!) تتردد من برلين إلى موسكو. لكن الروايات الحقيقية تكمن في التفاصيل الصغيرة: في الجندي الذي حمل صورة أمه في جيبه، وفي الطفلة التي رقصت على أنقاض لينينغراد، وفي الأم التي دفنت خمسة أبناء تحت شجرة بلّوط واحدة.
الحرب الوطنية العظمى لم تكن معركة دبابات وطائرات فحسب، بل كانت اختبارًا لإنسانية شعبٍ رفض أن ينكسر. فقد دفع الاتحاد السوفيتي ثمن النصر بما يقارب 27 مليون روح، منهم 8.7 مليون جندي، والباقي مدنيون قضى أغلبهم في أقبية الخوف والجوع. وكان حصار لينينغراد وحده، الذي دام 872 يومًا، كافيًا لكتابة ملحمة من النار والثلج، راح ضحيته أكثر من مليون إنسان، ماتوا جوعًا في مدينة أبت أن تنحني.
الموكب: مسيرة الأحياء والأموات
الاستعراض العسكري في الساحة الحمراء ليس عرضًا للقوة، بل رسالة إلى العالم: “انظروا، لقد تعلمنا الثمن”. الدبابات تمرُّ كالظلال الثقيلة، والجنود يسيرون بخطواتٍ متزامنة وكأنهم يطأون إيقاع الزمن نفسه. لكن اللحظة الأكثر قوة هي “فوج الخالدين”، حيث يحمل الناس صور أجدادهم الذين سقطوا في الحرب. الأموات يسيرون مع الأحياء، والأحياء يتنفسون من أجل الأموات.
الشريط الذهبي والأسود: رمزية الألوان
شريط القديس جورجيوس، بألوانه الذهبية والسوداء، يلفّ ذراع كل طفل وكل جندي. الأسود: لون الدخان والحداد. الذهبي: لون النار التي أحرقت الظلام. الشريط ليس زينة، بل هو جسر بين الأجيال، تذكير بأن الحرية تُنسج بخيوط من التضحيات.
في المساء…
تنفجر الألعاب النارية في سماء موسكو، لكنها لا تشبه ألعاب النار elsewhere. كل شرارة فيها تحمل اسمًا: إيفان، أولغا، بوريس… أسماء كتبت على شواهد قبور مجهولة. النور يصعد إلى الأعلى، وكأن الأرواح ترفرف مبتسمة: “لم نذهب سدىً”.
يوم النصر ليس تاريخًا…
بل هو ضمير الشعب الروسي. هو الدرس الذي يكرره الجد لحفيده: “الحرب تبدأ عندما تنسى الأجيال رائحة الدم”. في هذا اليوم، يتعلم الأطفال أن النصر الحقيقي ليس في هزيمة العدو، بل في الحفاظ على الإنسانية وسط العاصفة.
الذكرى لا تُحيَى بالشعارات، بل بالدمع الذي يسقط على يدٍّ مُجعدة، وبالوردة الحمراء التي توضع على نصب مجهول. يوم النصر هو اليوم الذي تتحدث فيه الروح الروسية بلغة العالم:
“نحن هنا لأنهم كانوا هناك”.
عدد المشاهدات: 2