زنوبيا.. ملكة الشرق التي أرعبت روما وقالت: بيدي لا بيد عمرو
د ميرنا القاضي
هناك نساءٌ يُكتب لهنّ أن يمررن في التاريخ كهمسات، وهناك من يُصبحن زوابع. وزنوبيا لم تمرّ، بل اجتاحت. لم تكن ظلّ رجل ولا امتدادًا لعرش، بل كانت العرش ذاته. امرأة بحجم مدينة، بملامح مملكة، وبقلب لا يسكنه غير المجد. بين غبار الصحراء وذهب الحضارة، صنعت مجدها، واختارت أن تُهزم واقفة، لا منكسرة. إننا لا نكتب عن زنوبيا، بل نُعيد الإنصات لصوتها، وهي تقول: بيدي لا بيد عمرو.
ولادة ملكة.. وعبقرية مبكرة
ولدت زنوبيا في تدمر عام 240 ميلاديًا، لأب عربي وأم من أصول إغريقية، واسمها الكامل كما في الروايات العربية “الزباء بنت عمرو”، وفي السجلات الرومانية “يوليا أوريليا زنوبيا”. من صغرها، كانت مختلفة، تتلقى علوم الفلسفة والتاريخ، وتُتقن اللغات: الآرامية، واليونانية، واللاتينية، والقبطية. في الإسكندرية، عاصمة المعرفة، نهلت من الحكمة، وأحبت مصر حد التماهي. ورأت في كليوباترا أكثر من ملكة، بل قدوة ومشروعًا مؤجلًا.
من وصية على العرش إلى قائدة إمبراطورية
بعد زواجها من الملك أذينة حاكم تدمر، شاركته السلطة فعليًا، وعندما اغتيل عام 267م، تسلّمت الحكم وصيةً على ابنها وهب اللات. لكن الوصاية سرعان ما تحوّلت إلى زعامة حقيقية. لم تكتفِ بالمحافظة على المملكة، بل توسعت. ضمت سوريا، الأناضول، وأخيرًا مصر. في الإسكندرية، سكّت عملة باسم ابنها، وفرضت حكمها على النيل. لم يكن الغزو هدفها، بل كانت تُعيد تشكيل الشرق، بصيغة امرأة تعرف التاريخ وتحترمه.
تدمر تصفع روما
عندما شعرت روما بأن هذه الملكة تقترب من أن تكون نِدًّا، أرسل الإمبراطور أورليانوس جيوشه. رفضت زنوبيا التراجع، وحصّنت تدمر، وقاتلت حتى اللحظة الأخيرة. لكن الحصار كان شديدًا. فانسحبت نحو نهر الفرات، تسعى لتحالف مع الفرس، لكنها وقعت أسيرة. اقتيدت إلى روما، تُعرض في موكب النصر كسجينة، رغم أنها دخلت التاريخ كملكة.
النهاية التي اختارتها بنفسها
تنوعت الروايات حول نهايتها، لكن أكثرها رسوخًا في الذاكرة العربية، تقول إنها حين علمت أن عمرو بن عدي –ابن أخت قاتل زوجها– سيكون من يقتلها، ابتلعت السم من خاتمها، وقالت كلمتها الشهيرة: “بيدي لا بيد عمرو”. لم تكن الكلمة مجرد رفض للموت على يد خصم، بل كانت صيحة حرية، إعلان استقلال في أصعب لحظة. جملة أصبحت مثلًا خالدًا تتناقله الأجيال في كل موقف يُهان فيه الكبرياء.
أسطورة لا تموت
زنوبيا لم تُدفن، بل تحوّلت إلى رمز. بقيت قصتها تُروى، وظلت مقولتها حاضرة في الشعر والدراما والسياسة. كلما أرادت امرأة أن تقول “أنا أختار مصيري”، تذكرت زنوبيا. وكلما شعر العرب أن الكرامة أهم من البقاء، تردد في أذهانهم صدى عبارتها.
كانت امرأة تُشبه المستقبل في زمن لم يفهم النساء. لم تكتفِ بالحكم، بل فكّرت، قررت، قاتلت، وحين جاء وقت النهاية، رسمتها بيدها. إنها قصة امرأة كانت تُشبه العواصف: لا تُطال، ولا تُكسر.
قالتها مرة، وكتبتها العرب ألف مرة: بيدي لا بيد عمرو.
عدد المشاهدات: 14